تحضير دروس الفلسفة لآساتذة التعليم الثانوي مسابقة 2021
مدارس الفلسفة اليونانية و اتجاهاتها
مقدمـــة :
إذا كان تفكير الإنسان القديم أسطوريا ينبني على الميتوس في تفسير الظواهر الكونية والوجودية وتفكيرا شاعريا يعتمد على الخيال والمجاز الإحيائي، فإن تفسير الإنسان اليوناني كان تفكيرا عقلانيا يعتمد على البرهان الذهني والمنطق الاستدلالي واللوغوس في فهم الوجود وتفسيره. وإذا كان فيتاغوراس هو أول من أطلق كلمة فيلسوف على المشتغل بالحكمة فإن سقراط هو أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. وقد ظهرت الفلسفة في اليونان وبالضبط في عاصمتها أثينا ما بين القرنين: السادس والرابع قبل الميلاد مكتوبة باللغة الإغريقية مستهدفة فهم الكون والطبيعة والإنسان وسلوكه الأخلاقي والمجتمعي والسياسي وإرساء مقومات المنهج العلمي والبحث الفلسفي والمنطقي.
إذن، ما هي مميزات الفلسفة اليونانية؟ وما هي أهم الاتجاهات والمدارس الفلسفية التي عرفتها الفكر اليوناني؟ وما هو السياق المرجعي الذي نشأت فيه هذه الفلسفة ؟
1- نشأة الفلسفة اليونانية:
أ- العوامل التاريخية:
ظهرت الحضارة الإغريقية في بلاد اليونان الكبرى مكتملة الوجود ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع قبل الميلاد بعد أن توحدت كثير من القبائل و المدن داخل كيان الأمة اليونانية بعد أن كانت متفرقة في جزر بحر الإيجه وآسيا الصغرى ومنطقة البلقان وشبه جزيرة المورة وجنوب إيطاليا وصقلية. وقد أطلق على اليونانيين تسمية الإغريق من قبل الرومان لأنهم كانوا يتكلمون الإغريقية، أما هم فقد كانوا يسمون أنفسهم الآخيين ثم الهلينيين.
وقد مرت الحضارة الإغريقية بثلاث مراجل كبرى: العصر الهلنستي ابتداء من 300 ق.م مرورا بالعصر الكلاسيكي الذي يعد أزهى العصور اليونانية في عهد الديمقراطي بركليس ،ويمتد هذا العصر من القرن 350 إلى 500 ق.م ليعقبه العصر الأرخي وهو عصر الطغاة والمستبدين الذين حكموا أثينا بالاستبداد ناهيك عن الحكم الإسبرطي العسكري الذي سن سياسة التوسع والهيمنة على جميع مناطق اليونان ومد السلطة على أثينا.
وإذا كانت إسبرطة دولة عسكرية منغلقة على نفسها تهتم بتطوير قدرات جيشها وقوتها العسكرية فإن أثينا كانت هي المعجزة الإغريقية تهتم بالجاني الفكري والثقافي والاقتصادي. وفي عهد بريكليس ستعرف أثينا نظاما ديمقراطيا مهما أساسه احترام الدستور وحقوق المواطن اليوناني. وغليكم نصل لبركليس يشرح فيه سياسته في الحكم:" إن دستورنا مثال يحتذى ذلك، أن إدارة دولتنا توجد في خدمة الجمهور وليست في صالح الأقلية كما هو الحال لدى جيراننا، لقد اختار نظامنا الديمقراطية. فبخصوص الخلافات التي تنشأ بين الأفراد فغن العدالة مضمونة بالنسبة للجميع، ويضمنها القانون، وفيما يخص المساهمة في تسيير الشأن العام، فلكل مواطن الاعتبار الذي يناله حسب الاستحقاق، ولانتمائه الطبقي أهمية اقل من قيمته الشخصية، ولا يمكن أن يضايق احد بسبب فقره أو غموض وضعيته الاجتماعية".
وكانت المدن اليونانية دولا لها أنظمتها السياسية والاقتصادية وقوانينها الخاصة في التديير والتسيير والتنظيم، ومن أهم هذه المدن الدول أثينا وإسبرطة.
ب- العوامل الاقتصادية:
عرفت اليونان بالنهضة الكبرى في المجال الاقتصادي لكونها حلقة وصل بين الشرق والغرب، وكانت لأثينا أسطول تجاري بحري يساعدها على الانفتاح والتبادل التجاري بين شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد ساهم اكتشاف المعادن في تطوير دواليب الاقتصاد اليوناني وخاصة الحديد الذي يتم صهره وتحويله إلى أداة للتصنيع كما نشطت صناعة النسيج والتعدين وازدهرت الفلاحة التي كان يهتم بها العبيد والأقنان وقد ساعد هذا الاقتصاد على ظهور طبقات اجتماعية جديدة إلى جانب طبقة النبلاء كالتجار وأصحاب الصناعات وأرباب الحرف والتجار الكبار. ونتج عن الازدهار الاقتصادي رخاء مالي واجتماعي وتبلورت طبقة الأغنياء الذين سيتنافسون على مراتب الحكم والسلطة وتسيير مؤسسات الدولة التمثيلية لتسيير شؤون البلاد.
ج- العوامل السياسية:
لم تصل اليونان إلى حضارتها المزدهرة إلا في جو سياسي ملائم لانبثاق مقومات هذه الحضارة. فقد تخلصت الدولة المدينة وخاصة أثينا من النظام السياسي الأوليغارشي القائم على حكم الأقلية من النبلاء ورؤساء وشيوخ القبائل والعشائر الذين يملكون الأراضي الواسعة ويشغلون فيها العبيد الأجانب وتم تجاوز الأنظمة السياسية المستبدة كالنظام الوراثي والحكم القائم على الحق الإلهي أو الحق الأسري . ومع انفتاح اليونان على شعوب البحر الأبيض المتوسط وازدهار التجارة البحرية ونمو الفلاحة والصناعة والحرف ظهرت طبقات جديدة كأرباب الصناعات والتجار الكبار والحرفيون ساهموا في ظهور النظام الديمقراطي وخاصة في عهد بريكليس وكليستين الذي يستند على الدستور وحرية التعبير والتمثيل والمشاركة في الانتخابات على أساس المساواة الاجتماعية وكان تخصص أجرة لكل من يتولى شؤون البلاد والسهر على حل مشاكل المجتمع اليوناني.
د - العوامل الجغرافية:
كانت اليونان في القديم من أهم دول البحر الأبيض المتوسط لكونها مهد المدنية والحضارة والحكمة. وإذا استعدنا جغرافيا اليونان إبان ازدهارها فكانت اليونان تطل جنوبا على جزيرة كريت العظيمة ويحيطها شرقا بحر إيجة وآسيا الوسطى التي كانت تخفق في تلك الفترة بالصناعة والتجارة والفكر. وفي الغرب عبر أيونيا تقع إيطاليا وصقلية وإسبانيا وفي الشمال تقع مقدونيا وهي عبارة عن شعوب غير متحضرة.
وتتشكل اليونان تضاريسيا في جبال شاهقة وهضاب مرتفعة وسواحل متقطعة ووديان متقعرة . وقد قسمت هذه التضاريس بلاد اليونان إلى أجزاء منعزلة وقطع مستقلة ساهمت في تبلور المدن التي كانت لها أنظمة حكمها الخاصة و أساليبها الخاصة في التسيير وتنظيم دواليب الإدارة والمجتمع. وتحيط بكل مدينة سفوح الجبال والأراضي الزراعية وكانت من أشهر المدن اليونانية أثينا وإسبارطة.
وكانت أثينا مهد الفلسفة اليونانية وتقع في شرق إسبارطة ، وموقعها متميز واستراتيجي لها الباب الذي يخرج منه اليونانيون إلى مدن آسيا الصغرى. وعبر هذه المدن كانت تنقل حضارة الشرق إلى بلاد اليونان. ومن أهم ركائز أثينا اعتمادها على مينائها و أسطولها البحري. وبين عامي470-490 قبل المسيح صراعاتهما ووحدت جيوشهما لمحاربة الفرس تنحت حكم داريوس الذي كان يستهدف استعمار اليونان وتحويلها إلى مملكة تابعة للإمبراطورية الفارسية. ولكن اليونان المتحدة والفتية استطاعت أن تلحق الهزيمة بالجيش الفارسي وقد قدمت أثينا أسطولها البحري بينما قدمت إسبارطة جيشها القوي. وبعد انتهاء الحرب سرحت إسبارطة جيوشها وحولت أثينا أسطولها العسكري على أسطول تجاري ومن ثم أصبحت أثينا من أهم المدن التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد عرفت أثينا نشاطا فكريا وفلسفيا كبيرا بفضل الموقع الجغرافي والنشاط التجاري ونظامها السياسي الديمقراطي وتمتع الأثيني بالحرية . وفي هذا يقول ول ديورانت:" كانت أثينا الباب الذي يخرج منه اليونانيون إلى مدن آسيا الصغرى، فأصبحت أثينا إحدى المدن التجارية العظيمة في العالم القديم، وتحولت على سوق كبيرة وميناء ومكان اجتماع الرجال من مختلف الأجناس والعادات والمذاهب وحملت خلافاتهم واتصالاتهم ومنافساتهم إلى أثينا التحلل والتفكير... وبالتدريج تطور التجار بالعلم، وتطور الحساب بتعقيد التبادل التجاري، وتطور الفلك بزيادة مخاطر الملاحة، وقدمت الثروة المتزايدة والفراغ والراحة والأمن الشروط اللازمة في البحث والتأمل والفكر".
هـ - العوامل الفكرية:
ومع ازدهار الاقتصاد ودمقرطة الحكم السياسي وانفتاح الدولة على شعوب البحر الأبيض المتوسط وانصهار الثقافات انتعشت اليونان ثقافيا وفكريا وتطورت الآداب والفنون و العلوم. ففي مجال الأدب نستحضر الشاعر هوميروس الذي كتب ملحمتين خالدتين الإلياذة و الأوديسا وأرسطو الذي نظر لفن الشعر والبلاغة والدراما التراجيدية في كتابيه فن الشعر وفن الخطابة. وتطور المسرح مع سوفكلوس ويوربيديس واسخيلوس واريستوفان، وانتعاش التشريع مع الحكيم سولون وتطور الطب مع ابقراط والرياضيات مع المدرسة الفتاغورية وطاليس على سبيل التمثيل دون أن ننسى ظهور الألعاب الأولمبية مع البطل الأسطوري هرقل وانتعاش الفلسفة مع الحكماء السبعة والفلاسفة الكبار كسقراط وأفلاطون وأرسطو.
2 - ظهور الفلسفة اليونانية:
لم تظهر الفلسفة اليونانية إلا في مدينة "ملطية" الواقعة على ضفاف آسيا الصغرى حيث أقام الايونيون مستعمرات غنية مزدهرة. وفي هذه المدينة ظهر كل من طاليس وأنكسمندر وانكسمانس. وشكلوا مدرسة واحدة في الفلسفة وهي المدرسة الطبيعية أو الكسمولوجية،[5] وكانت هذه الفلسفة مادية ترجع أصل العالم إلى مبدأ مادي ولا تعترف بوجود الإله الرباني كما سنعرف ذلك في الفكر الإسلامي الذي يعتبر أن العالم خلق من عدم وان الله هو الذي خلق هذا الكون لاستخلاف الإنسان فيه.
ولقد قطعت الفلسفة اليونانية ثلاث مراحل أساسية:
1- طور النشأة أو ما يسمى بفلسفة ما قبل سقراط،؛
2 - طور النضج والازدهار ويمتد هذا الطور من سقراط حتى أرسطو؛
3 - طور الجمود والانحطاط و قد ظهر هذا الطور بعد أرسطو وأفلاطون وامتد حتى بداية العصور الوسطى.[6]
إن الفكر اليوناني حاول –على العموم- الإجابة عن أسئلة ثلاثة كبرى هي: ماذا فوق الأشياء؟ و ماذا وراء الأشياء؟ كيف نعيش مع الأشياء؟
I - ماذا فوق الأشياء؟
- المرحلة الأولى من مراحل التفكير اليوناني و هي مرحلة التفكير الخرافي ( الفكر اليوناني اللاهوتي ) ، حيث حاول الإنسان أن يجيب عن هذا السؤال : ماذا فوق الأشياء؟ ، حيث كان يسند إلى الكائنات الطبيعية حياة روحية شبيهة بحياة الإنسان، و يعزوا إلى هذه الأرواح ، جميع ما يحدث في هذا الكون من ظواهر .مثال : أسطورة "عقب أخيلوس أو أشيل" ( حرب طروادة ).
II - ماذا وراء الأشياء؟
أولا: المدرسة الطبيعية أو الكوسمولوجية:
1) أصل الأشياء في مستواها المادي :
ظهرت الفلسفة اليونانية أول ما ظهرت مع الحكماء الطبيعيين الذين بحثوا عن العلة الحقيقية للوجود الذي أرجعوه إلى أصل مادي وكان ذلك في القرن السابع والسادس قبل الميلاد. وكانت فلسفتهم خارجية وكونية أساسها مادي أنطولوجي تهتم بفهم الكون وتفسيره تفسيرا طبيعيا وكوسمولوجيا باحثين عن أصل الوجود بما هو موجود.
يعد طاليس( 621-550 ق.م )، أول فيلسوف يوناني مارس الاشتغال الفلسفي ، وهو من الحكماء السبعة ومن رواد المدرسة المالطية. وقد جمع بين النظر العلمي والرؤية الفلسفية، وقد وضع طريقة لقياس الزمن وتبنى دراسة الأشكال المتشابهة في الهندسة وخاصة دراسته للمثلثات المتشابهة . ولقد اكتشف البرهان الرياضي. وإذا كان هناك من ينسب ظهور الرياضيات إلى فيتاعوراس ففي نظر كانط يعد طاليس أول رياضي. في كتابه" نقد العقل النظري".
وعليه، فطاليس يرجع أصل العالم في كتابه عن الطبيعة إلى الماء باعتباره العلة المادية الأولى التي كانت وراء خلق العالم:
- لقد انطلق من الفرضية التالية، و هي أن الأشياء على رغم من تغيرها و تنوعها ،و اختلافها ، تشكل عالما معقولا ، و ترتد إلى مبدأ واحد هو الماء . و من الحجج التي يؤكدون بها صدق هذه الفرضية، هي أن الحياة تدور مع الماء، وجودا و عدما، فتكون الحياة حيث يكون الماء، و تنعدم حيث تنعدم؛ و أن الماء يأخذ صورا عديدة حيث يكون غازا .. و سائلا.. و صلبا . و كل ما يقع في الوجود، لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث؛ فلا فرق بين الإنسان و الحيوان و النبات و مختلف الأشياء إلا الاختلاف في كمية الماء الذي يتركب منها ، هذا أو ذاك؛ هذه حقيقة مطلقة، يؤمن بها طاليس، إلى درجة أنه خيُّل إليه، أن الأرض قرص متجمّد، يسبح فوق لجاج مائية ليس لأبعادها نهاية.
وفي المقابل ذهب أنكسمانس ( 588- 524 ق.م ) في كتابه عن الطبيعة إلى أن الهواء هو أصل الكون وعلة الوجود الأولى: إن الشتات الذي تتقدم به الأشياء المتنوعة في الاختلاف، ليس سوى قرص مسطوح يسبح في الهواء. و من الأدلة التي يستند إليها ، أن الهواء يشيع في أنحاء الوجود ..
وإذا انتقلنا إلى هرقليطس، فهو من مواليد ( 540 – 480 ق.م ) ومن مؤلفاته كتاب" عن الطبيعة"، فهو من مدينة افسوس مدينة في آسيا الصغرى تبعد قليلا عن ملطية. وفلسفته مبنية على التغير والتحول، أي أن الكون أساسيه التغير والصيرورة والتحول المستمر فنحن لا نسبح في النهر مرتين كما أثبت أن النار هي أساس الكون وعلة الوجود :
إن الأشياء تتغير باستمرار و مصدر ذلك النار؛ لأن طبيعة النار، أن تحترق، و الاحتراق تغير . مكل الأشياء في العالم ، ظواهر لا تكف عن الاحتراق؛ و بهذه العملية يتحول الشيء باستمرار إلى الآخر؛ و ليست هذه الحياة التي تدب في الأحياء، و هذا النشاط العقلي الذي يميز الإنسان، إلا قسما من تلك النار؛ فكلما كثرت النار في الجسم، ازدادت حيويته، و اشتد نشاطه؛ و كلما أظلم الشيء – قل ما فيه من نار – كان أقرب إلى الموت و اللاوجود .
2) أصل الأشياء في مستواها التجريدي :
أ- ألا يمكن رد أصل الكون إلى نسبة الامتزاج فيما بين العناصر الأربعة التي يحدّدها الحب و النفور؟
يرى أمبادوقليس ( حوالي 490 ق.م ) يثبت أمبادوقليس أن الكون أصله العناصر الأربعة: النار والهواء والماء و التراب وقد أضاف العنصر الخامس وهو أميل إلى اللطف والسرعة وهو الأثير. وكل عنصر من هذه العناصر تعبر عن آلهة أسطورية خاصة.و هي عناصر لا تنقطع فيما بينها، الاتصال و الانفصال و الاختلاف ؛ و ذلك تبعا لتفاوت نسبة المزج فيما بينهم. و محرك هاته العناصر، قوتان متضادتان هما الحب و النفور.
ب- ألا يمكن رد أصل الأشياء إلى الجوهر الفرد؟
يرى ديمقريطس ( 460-370 ق.م ) أن أصل الأشياء هو عنصر واحد متجانس، يدعونه الجوهر الفرد أو الذرة . و دليلهم في ذلك، أنه لو فككّنا الأشياء إلى جزئياتها، لانتهينا إلى وحدات لا تقبل التقسيم، هي لانهائية العدد، و تبلغ من الدقة، حدا يتعذر معه إدراكها بالحواس، و هي خالية من الصفات. أما الصفات التي ندركها في الأشياء، فهي ناشئة عن كيفية ائتلاف الذرات في تكوينها للأجسام.
ج- ألا يمكن رد أصل الأشياء إلى العقل؟
يعتقد انكساغوراس ( 500 ق.م ) أن أصل الكون هو عدد لا نهاية له من العناصر أو البذور يحركها عقل رشيد بصير: وراء الأشياء قوة عاقلة مجردة ذكية و بصيرة، تدبّّر شؤونها، فتولد الحركة في الأشياء، فتتكون منها العوالم.
و أساس هذا الاعتقاد، انبهاره من نظام الكون و جماله و تناسقه، و كذا استنتاجه بأنه يستحيل على قوة عمياء، أن تخرج هذا هذا العالم في هذه الدقة و التناغم و الجمال. إلا أن العقل لم يخلق المادة من العدم، بل هما عنصران قديمان أزليان، نشأ كل منهما بذاته، ثم طرأ العقل على المادة، فبعث فيها الحركة و النظام.
ثانيا: المدرسة الفيتاغورية:
تنسب المدرسة الفيتاغورية إلى العالم الرياضي اليوناني الكبير فيتاغورس الذي يعد أول من أطلق كلمة فيلسوف وكانت بمعنى حب الحكمة أما الحكمة فكانت لا تنسب سوى للآلهة. ويذهب فيتاغورس على أن العالم عبارة عن أعداد رياضية كما أن الموجودات عبارة عن أعداد وبالتالي فالعالم الأنطولوجي عنده عدد و نغم : أصل الأشياء هو العدد / الواحد أصل الوجود، دليله في ذلك، هو أنه كل ما تقع عليه العين ، مركب من أعداد . و لما كانت الأعداد كلها متفرعة عن الواحد، لأنها مهما بلغت من الكثرة، فهي واحد متكرر، كان الواحد أصل الوجود .
وتتسم الفيتاغورية بأنها مذهب ديني عميق الرؤية والشعور كما أنها مدرسة علمية تعنى بالرياضيات والطب والموسيقا والفك وقد طرحت كثيرا من القضايا الحسابية والهندسية موضع نقاش وتحليلل كما أن الفيتاغورية هيئة سياسية تستهدف وضع النظام في المدينة على أيدي الفلاسفة الذين يحتكمون على العقل والمنهج العلمي.
- هل الإنسان هو مصدر الحقيقة ؟
ثالثا : المدرسة السوفسطائية أو مدرسة الشكاك:
ظهرت المدرسة السوفسطائية في القرن الخامس قبل الميلاد بعدما أن انتقل المجتمع الأثيني من طابع زراعي إقطاعي مرتبط بالقبيلة إلى مجتمع تجاري يهتم بتطوير الصناعات وتنمية الحرف والاعتماد على الكفاءة الفردية والمبادرة الحرة. وأصبح المجتمع في ظل صعود هذه الطبقة الاجتماعية الجديدة (رجال التجارة وأرباب الصناعات) مجتمعا ديمقراطيا يستند على حرية التعبير والاحتكام على المجالس الانتخابية والتصويت بالأغلبية ولم يعد هناك ما يسمى بالحكم الوراثي أو التفويض الإلهي بل كان كل مواطن حر له الحق في الوصول إلى أعالي مراتب السلطة. لذلك سارع أبناء الأغنياء لتعلم فن الخطابة والجدل السياسي لإفحام خصومهم السياسيين الآخرين وهنا ظهر السوفسطائيون ليزودوا هؤلاء باسلحة الجدل والخطابة واستعمال بلاغة الكلمة في المرافعات والمناظرات الحجاج و الخطابية. وقد تحولت الفلسفة إلى وسيلة لكسب الأرباح المادية ولاسيما أن اغلب المتعلمين من طبقة الأغنياء. ومن أهم الفلاسفة السوفسطائيين نذكر جورجياس وكاليكيس وبروتاغوراس. وقد كان هؤلاء يعلمون الناس فن الخطابة والفصاحة وطرائق الجدل والبرهان المغالطي الذي كان ينطلق من مقدمات خاطئة ويصل إلى نتائج خاطئة. ولقد استغل هؤلاء سذاجة الناس وكانوا يزرعون الشك في كثير من المسلمات والقضايا ويستعملون التلاعب اللفظي واللغوي في إفحام الخصوم المعارضين ومحاجاتهم إذ كانوا قادرين على تأييد القول الواحد ونقيضه على حد سواء. وكان الهدف من زرع الشك في صفوف الناس هو الكسب المادي . وقد سبب هذا التيار الفلسفي في ظهور سقراط الذي كان يرى أن الحقيقة يتم الوصول إليها ليس بالظن والشك والفكر السوفسطائي المغالطي بل بالعقل والحوار الجدلي التوليدي واستخدام اللوغوس والمنطق.
يعتقد السوفسطائيون أن الحواس هي مصدر المعرفة، لا توجد حقيقة مطلقة، بل حقائق لأن الحواس هي مصدر المعرفة و ميزان الحقيقة تظهر لنا العالم الحسي متغيرا و متكثرا ، و هم بذلك شكوا في إمكان قيام الحقيقة، يقول بروتاغوراس: " الإنسان مقياس كل شيء "
رابعا : المدرسة السقراطية:
يعد سقراط ( 486-399م) أب الفلاسفة في اليونان، وقد انزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. ويعني هذا أن الحكماء الطبيعيين ناقشوا كثيرا من القضايا التي تتعلق بالكون واصل الوجود وعلته الحقيقية التي كانت وراء انبثاق هذا العالم وهذا الوجود الكوني. وعندما ظهر سقراط غير مجرى الفلسفة فحصرها في أمور الأرض وقضايا الإنسان والذات البشرية فاهتم بالأخلاق والسياسة . وقد ثار ضد السوفسطائيين الذين زرعوا الشك والظن ودافع عن الفلسفة باعتبارها تصل إلى الحقيقة عن طريق العقل والجدل التوليدي والبرهان المنطقي. والهدف من الفلسفة هو تحقيق الحكمة وخدمة الحقيقة لذاتها وليس لهدف آخر خارجي كما عند السوفسطائيين الذين ربطوا الفلسفة بالمكاسب المادية والمنافع الذاتية والعملية. وكانت الحقيقة عند سقراط في ذات الإنسان وليست في العالم الخارجي وما على الإنسان إلا أن يتأمل ذاته ليدرك الحقيقة لذا، قال عبارته المشهورة:" أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك".
يعتقد سقراط أن العقل هو مصدر المعرفة: - توجد حقيقة واحدة لا متعددة أو مختلفة؛ - الحواس تخدعنا، و لا تدرك الموجودات كما هي في حقيقتها، و هي قاصرة لا تدرك الحقيقة؛ - وجود حقائق ثابتة تتجاوز حواسنا؛ الشك أساس التفلسف ..
خامسا: المدرسة المثالية الأفلاطونية:
جاء افلاطون بعد سقراط ليقدم تصورا فلسفيا عقلانيا مجردا ولكنه تصور مثالي ؛ لأنه أعطى الأولوية للفكر والعقل والمثال بينما المحسوس لا وجود له في فلسفته المفارقة لكل ما هو حسي وملموس. ولأفلاطون نسق فلسفي متكامل يضم تصورات متماسكة حول الوجود والمعرفة والقيم.
قسم أفلاطون العالم الأنطولوجي إلى قسمين: العالم المثالي والعالم المادي، فالعالم المادي هو عالم متغير ونسبي ومحسوس. وقد استشهد أفلاطون بأسطورة الكهف لتبين بان العالم الذي يعيش فيه الإنسان هو عالم غير حقيقي وأن العالم الحقيقي هو عالم المثل الذي يوجد فوقه الخير الأسمى والذي يمكن إدراكه عن طريق التأمل العقلي والتفلسف.. فالطاولة الحقيقية غير حقيقية في عالمنا المادي الذي أساسه الهيولى أو المادة أما الطاولة الحقيقية فتوجد في العالم المثالي. كما أن المعرفة الحقيقية هي معرفة عالم المثل فكل الحقائق المعرفية الموجودة في العالم المادي نسبية تقريبية وجزئية وسطحية. أما المعرفة في العالم المثالي فهي مطلقة وكونية وصادقة ويقينية. كما أن المعرفة مرتبطة بعالم المثل عن طريق التفلسف العقلاني ومن هنا فالمعرفة حسب أفلاطون تذكر والجهل نسيان. ويعني هذا أننا كلما ابتعدنا عن العالم المثالي إلا و أصبنا الجهل لذا فالمعرفة الحقيقية أساسها إدراك عالم المثل وتمثل مبادئه المطلقة الكونية التي تتعالى عن الزمان والمكان. ومن هنا فاصل المعرفة هو العقل وليس التجربة أو الواقع المادي الحسي الذي يحاكي عالم المثال محاكاة مشوهة.
وعلى مستوى الأكسيولوجيا فجميع القيم الأخلاقية من خير وجمال وعدالة نسبية في عالمنا المادي وهي مطلقة في عالم المثل المطلق والأزلي.
وفي جمهورية أفلاطون يؤسس أفلاطون مجتمعا متفاوتا وطبقيا إذ وضع في الطبقة الأولى الفلاسفة والملوك واعتبرهم من طبقة الذهب بينما في الطبقة الثانية وضع الجنود وجعلهم من طبقة الفضة أما في الطبقة السفلى فخصصها للعبيد وجعلهم من طبقة الحديد؛ لأنهم أدوات الإنتاج والممارسة الميدانية. ويعني هذا أن أفلاطون كان ينفر من ممارسة الشغل والعمل اليدوي والممارسة المنفعية وكان يفضل إنتاج النظريات وممارسة الفكر المجرد. كما أن أفلاطون طرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة لأنهم يحاكون العالم النسبي محاكاة مشوهة وكان عليهم أن يحاكوا عالم المثل الذي هو أساس الوجود الحقيقي.
وهكذا يتبين لنا أن فلسفة أفلاطون فلسفة مثالية مفارقة للمادة والحس. تعتبر عالم المثل العالم الأصل بينما العالم المادي هو عالم زائف ومشوه وغير حقيقي. كما تجاوز أفلاطون المعطى النظري الفلسفي المجرد ليقدم لنا تصورات فلسفية واجتماعية وسياسية في كتابه" جمهورية أفلاطون"[8]. كما يلاحظ أن التصور الأفلاطوني يقوم على عدة ثنائيات: العالم المادي في مقابل العالم المثالي، انشطار الإنسان على روح من أصل سماوي وجسد من جوهر مادي، ومعرفة ظنية محسوسة ومعرفة يقينية مطلقة. وعلى المستوى الاجتماعي هناك عامة الناس وهم سجناء الحواس الظنية و الفلاسفة الذين ينتمون على العالم المثالي بتجردهم من إسار الحس والظن. لقد وضع أفلاطون
سادسا: المدرسة أرسطية المادية:
يعد أرسطو فيلسوفا موسوعيا شاملا كانت تعني الفلسفة عنده كل ضروب المعرفة والبحث العلمي، وكان يبحث في الطبيعة والميتافيزيقا والنفس وعلم الحياة والسياسة والشعر وفن الخطابة والمسرح. وقد وضع المنطق الصوري الذي كان له تأثير كبير على كثير من الفلاسفة حتى حل محله المنطق الرمزي مع برتراند راسل خاصة.
يذهب أرسطو أن العالم الحقيقي هو العالم الواقعي المادي أما العالم المثالي فهو غير موجود. وان الحقيقة لا توجد سوى في العالم الذي نعيش فيه وخاصة في الجواهر التي تدرك عقلانيا وليس في الأعراض التي تتغير بتغير الأشكال. أي أن الحقيقي هو الثابت المادي أما غير الحقيقي فهو المتغير الظاهري. ولقد أعطى أرسطو الأولوية لما هو واقعي ومادي على ما هو عقلي وفكري. ومن هنا عُدّ أرسطو فيلسوفا ماديا و هو قائل بالعلل الأربع: العلة الفاعلة والعلة الغائية والعلة الصورية الشكلية والعلة المادية. إذا أخذنا الطاولة مثالا لهذه العلل الأربع، فالنجار يحيل على العلة الفاعلة والصانعة، أما الخشب ماهية الطاولة فهي العلة المادية، أما صورة الطاولة فهي العلة الصورية الشكلية أما العلة الغائية فالطاولة نستعين بها لتناول الغذاء.
III - كيف نعيش مع الأشياء؟
بعد أن يصل الفكر إلى أوجه ، ما عسى الإنسان أن يصنع به؟
سابعا: المدرسة الرواقية :
تذهب المدرسة الرواقية التي ظهرت بعد فلسفة أرسطو التي استنفذت إمكانياتها النظرية إلى أن الفلسفة هي فن الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة العملية، ولم تعد الفلسفة تبحث عن الحقيقة في ذاتها بل أصبحت معيارا خارجيا تتجه على ربط الفلسفة بالمقوم الأخلاقي وركز الكثيرون دراساتهم الفلسفية على خاصية الأخلاق كما فعل سنيكا الذي قال:" إن الفلسفة هي البحث عن الفضيلة نفسها، وبهذا تتحقق السعادة التي تمثلت في الزهد في اللذات ومزاولة التقشف والحرمان".[9] ويعني هذا أنه بعد موت أرسطو وتغير الظروف الاجتماعية والسياسية انتقل التفكير من الوجود إلى البحث في السلوك الأخلاقي للإنسان. ولقد ارتبطت المدرسة الرواقية بالفيلسوف زينون (336-264ق.م) الذي اقترنت الفلسفة عنده بالفضيلة واستعمال العقل من اجل الوصول إلى السعادة الحقيقية.وتعد الفلسفة عند الرواقيين مدخل المنطق والأخلاق والطبيعة. وقد كان المنطق الرواقي مختلفا عن المنطق الأرسطي الصوري. وقد اثر منطقهم في الكثير من الفلاسفة والعلماء.
ثامنا: المدرسة الابيقورية:
تنسب الفلسفة الأبيقورية إلى أبيقور(270-341 ق.م)، وتتميز فلسفته بصبغة أخلاقية عملية. في النظرية الأبيقورية إلى اللذة وان الفلسفة تسعى إلى الحصول على السعادة باستعمال العقل التي هي غاية الفلسفة يخدمها المنطق وعلم الطبيعة. إن المنطق هو الذي يسلم الإنسان على اليقين الذي به يطمئن العقل والذي بدوره يؤدي على تحقيق السعادة. ويهدف علم الطبيعة على تحرير الإنسان من مخاوفه وأحاسيسه التي تثير فيه الرعب. ويعني هذا ان لابد للفلسفة ان تحرر الإنسان من مخاوفه وقلقه والرعب الذي يعيشه في الطبيعة بسبب الظواهر الجوية والموت وغير ذلك.
تاسعا: مدرسة الإسكندرية:
انتقلت الفلسفة إلى مدينة الإسكندرية المصرية التي بناها الإسكندر المقدوني إبان العصر الهيليني وكانت معروفة بمكتبتها العامرة بالكتب النفيسة في مختلف العلوم والفنون والآداب. ومن أشهر علماء هذه المدرسة اقليديس وارخميديس واللغوي الفيلولوجي إيراتوستن. وقد انتعشت هذه المدرسة في القرون الميلادية الأولى وامتزجت بالحضارة الشرقية وامتداد الفكر الديني والوثني وانتشار الأفكار الأسطورية والخرافية والنزعات الصوفية.
ومن مميزات هذه المدرسة التوفيق بين أراء أفلاطون المثالية و أرسطو المادية، والتشبع بالمعتقدات الدينية المسيحية واليهودية و الأفكار الوثنية من زرادشتية ومانوية وبوذية وبدء الانفصال بين العلم والفلسفة بعد ظهور فكرة التخصص المعرفي.كما انتشرت المبادىء الصوفية والعرفانية والغنوصية والاهتمام بالسحر والتنجيم والغيبيات والإيمان بالخوارق. وقد تشبعت الفلسفة الأفلاطونية بهذا المزيج الفكري من المعتقدات الدينية والمنازع الصوفية وأراء الوثنية فنتج عنها فلسفة غربية امتزجت بالطابع الروحاني الشرقي وذلك من أجل التوفيق بين الدين و الفلسفة بيد أن الذين كانوا يمارسون عملية التوفيق كانوا يعتقدون أنهم يوفقون بين أرسطو و أفلاطون ولكنهم كانوا في الحقيقة يوفقون بين أفلاطون و أفلوطين مما أعطى مزيجا فكريا يعرف بالأفلوطينية الجديدة، ومن أشهر فلاسفة المدرسة الإسكندرية نستحضر كلا من فيلون و أفلوطين الذين كانت تغلب عليهما النزعة الدينية والتصور المثالي في عملية التوفيق ففلسفة أفلوطين هي" مزيج رائع فيه قوة و أصالة بين أراء أفلاطون والرواقيين وبين الأفكار الهندية والنسك الشرقي والديانات الشعبية المنتشرة أنذاك.
والطابع العام لفلسفته هو غلبة الناحية الذاتية فيها على الناحية الموضوعية، فهي فلسفة تمتاز بعمق الشعور الصوفي والمثالية الأفلاطونية ووحدة الوجود الرواقية، وكلها عناصر يقوي بعضها بعضا ، حتى لتخال و أنت تقراها كأنك أمام شخص لا خبر له بالعالم الموضوعي أو يكاد. فالمعرفة عنده وعند شيعته تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله دون أن تمر بالعالم المحسوس؛ هذه المعرفة الذاتية الباطنية هي كل شيء عندهم".
خاتمـــة:
هكذا إذن، لم يكتف الفكر اليوناني في تفسيره للأشياء بالانتقال من مرحلة لاهوتية، إلى مرحلة العقل الفلسفي، بل تحول أيضا، من هذا التفسير للأشياء إلى حكمة التعامل معها، حيث يمارس الاستقامة و السعادة. لقد كان اليونانيون يعتقدون في أول أمرهم، و مدة قرون، أن العالم تحكمه قوى خارقة مستقلة عنه، و ما أن تحررت عقولهم من سلطة هذه الذهنية السحرية، حتى فتحوا أبواب التفلسف الراقي، و هو الأمر الذي مكنهم من التأمل في الأشياء _ في ظاهرها و في باطنها_ و ما تكتنفه من حقائق في ذاتها. و ما أن أدرك هذا التفلسف أوجه، حتى كان بعضهم _ من اليونانيين و من غيرهم _ قد اتخذ منه، النور الذي به يهتدي و به ينظم حياته. و بهذا، يكون النظر الفلسفي، قد ساعده على التعايش مع مختلف الأشياء في أحضان عالم منسجم وجميل.
وساهمت الفلسفة الإغريقية في عقلنة الفكر الإنساني بعد أن كان تفكيرا أسطوريا خرافيا وتخييلا شاعريا مجازيا وفكرا لاهوتيا يؤمن بالأفكار الوثنية والمعتقدات الدينية والنحل العرفانية الصوفية. ونلاحظ كذلك أن الفلسفة لم تنشا إلا في جو سياسي ديمقراطي ، وتعايشت مع العلوم والفنون والآداب وانصهرت في بوتقة فكرية واحدة كانت فيها الفلسفة أم العلوم والمعارف .
وقد تأثرت في ذلك بالحضارات الشرقية السابقة وبحضارات الشعوب المجاورة. ويعني هذا أن إرث الفلسفة لم يكن يونانيا محضا، بل ساهمت فيه الشعوب الشرقية بقسط وافر. كما أن تأثير الفلسفة اليونانية في الشعوب اللاحقة سيكون له أثر كبير في تطوير حضاراتها
-----------------------------------
الفلسفة الاسلامية
مقدمة
إن قلنا فلسفة إسلامية ، نكون قد نسبناها إلى الدين ، وفي هذه الحالة نخرج فلاسفة عرب كتبوا بالعربية وعاشوا في بلاد العرب ولكنهم من أتباع ديانات أخرى كاليهودية والمسيحية ، فبأي حق نخرجهم وهم عرب ؟ أليس من الأفضل أن نطلق عليها فلسفة عربية ؟ ولكن في هذه الحالة سنخرج من دائرة الفلسفة العربية فلاسفة مسلمون ولكنهم ذوي أصول فارسية مثلا ، فبأي حق نخرجهم أيضا ؟
نشأة الفلسفة الإسلامية
كان لظهور الإسلام الأثر الفعال في تغيير العقلية العربية التي كانت بعيدة عن النشاط الفكري الحضاري الذي كان حكرا على الشعوب الأخرى المتاخمة لها إلا أن هذه الصورة السيئة للعقل العربي تغيرت وفي زمن قياسي حيث تجاوز اهتمامهم نظم الكلام وترتيب القوافي إلى النشاط العلمي على اختلاف فروعه ومجالاته .
لم يحدث هذا في صدر الإسلام ، لأسباب يمكن حصرها في العمل على ترسيخ قدم الدين الجديد ونشره . وعندما استقر أمره واخضع إمبراطوريات الشرق والغرب تحت سلطانه خاصة أيام الدولة العباسية أين بدأ حركة فكرية حقيقية ، فكان منهم الأطباء والكيميائيين والرياضيين وعلماء الفلك فضلا عن علماء الشريعة واللغة .
وكان للفلسفة نصيب وافر من هذه النهضة العلمية ، وأصبحت تدرس وتعلم لتخرج إلى الوجود فلاسفة أفذاذ تزخر المكتبات العربية بآثارهم وامتد أثرهم إلى أوروبا في القرون الوسطى .
إلا أن بعض المتحاملين من المستشرقين يرفضون فكرة وجود فلسفة إسلامية أو بالأحرى وجود فكر عربي ، ويعتقد هؤلاء أن الفلسفة منتوج يوناني أصيل ظهر في اليونان وهناك اخذ شكله النهائي ، لينتقل فيما بعد إلى أوروبا ويسهم في بعث النهضة العلمية . أما المسلمون فإن كان لهم من دور فهو لا يعدو أن يكون مجرد ترجمة آثار فلاسفة اليونان أمثال أفلاطون وسقراط دون أن يضيفوا شيئا على ما قاله أساتذتهم .
والمتمعن في هذا الحكم يجد انه صادر عن مستشرقين ملأ الحقد قلوبهم فجانبوا الصواب ، ولم يكن رائدهم البحث العلمي الموضوعي الذي ينظر إلى الحضارة كعمل إنساني ساهمت فيه كل الحضارات ولم يصدر عن المعجزة اليونانية كما يقولون . إن اليونانيين كانوا على اتصال بالشعوب الشرقية وأفادوا منها الكثير وبعبقريتهم أضافوا الشيء الكثير أيضا ، ونفس الكلام ينبغي أن يصدر في حق فلاسفة الإسلام الذين اطلعوا على الفكر اليوناني ولم يخفوا احترامهم له ، بل كان منهم من يفتخر بأنه تابع لأرسطو ، دون أن يعني هذا التقليل من قدرهم ومكانتهم . فالحقيقة التاريخية تثبت وجود فكر فلسفي إسلامي متميز وأصيل .
عوامل ظهور الفلسفة الإسلامية
إذا الفلسفة الإسلامية موجودة ولم يبق إلا التعرف على العوامل التي ساعدت على نشأتها ، ويمكن حصرها في عوامل داخلية مرتبطة أساسا بالدين الإسلامي ، وعوامل خارجية وجدت كنتيجة لاحتكاك الحضاري .
العوامل الداخلية
العوامل الداخلية نعثر عليها أولا في القران الذي حفل بآيات تحت على استخدام العقل عكس إنجيل المسيحيين الذي أعلن أتباعه بوجوب الإيمان وبعده يمكن للمؤمن أن يتعقل ، فالمسيحي يؤمن ثم يبحث عن حجج تثبت ما كان قد امن به .في حين القرآن يصرح في أكثر من آية ، انه على المسلم أن يمارس التفكير العقلي ومن ذلك قوله تعالى في سورة الحشر " فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) " وقوله أيضا في سورة الغاشية " أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) " والنظر يأخذ معنى التفكير في مخلوقات الله التي يستدل بها على وحدانيته ، وإذا أخذنا الفلسفة بمعنى الحكمة نجدها تتكرر في القران ، يقول الله تعالى في سورة البقرة " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) ". والألباب هي العقول ، ويقول أيضا في سورة لقمان " وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) ". وفي هذه الآية مدح القران لقمان ووصفه بالحكمة . ويحدثنا القران عن داود عليه السلام فيقول " اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) " . هذه الآيات وغيرها تحث على استخدام التفكير العقلي والنظر والتبصر بل إن القران في القصص التي أوردها تشجع على النشاط العقلي خاصة في قصة إبراهيم عليه السلام .
وبعد القران تأتي السنة وعلى غراره لم تكن معطلة لفعالية العقل يقول الرسول (ص)عن عبد الله ابن مسعود قال ، قال النبي (ص) لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها . صححه البخاري ، وقال عليه السلام أيضا في رواية لأبي هريرة : الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها . وعن ابن عباس قال دعا لي رسول الله (ص)أن يؤتني الحكمة مرتين. هذه آيات وأحاديث تدعوا إلى استخدام العقل ، والتفلسف نشاط عقلي في الصميم ، وبالتالي لا اعتراض من الشريعة الإسلامية على الإقبال على تدارس الفلسفة. إلا أن الرافضين لوجود فلسفة إسلامية تسألوا عن سبب تأخرها إلى زمن الخلافة العباسية ولماذا لم تظهر في صدر الإسلام ؟ أو حتى أيام الخلافة الأموية ؟ والرد على ذلك أن المسلمين في هذه الفترة كانوا منشغلين بالدعوة إلى الدين الجديد والعمل على تثبيت أركانه ونشره بين الأمم كما أنهم لم يتوفروا على موروث فلسفي قديم ، وهنا كانوا في أمس الحاجة للاطلاع على التفكير الفلسفي لدى الشعوب الأخرى وهذا ما يعرف بالعوامل الخارجية .
العوامل الخارجية
القران والسنة رغم عدم اعتراضهما على التفكير العقلي بل والدعوة إليه، إلا أنهما لا يمثلان الدوافع الحقيقية لظهور الفلسفة الإسلامية التي ظهرت في زمن الخلافة العباسية ، وهنا يطرح السؤال نفسه ، لماذا ظهرت في العهد العباسي بالذات ولماذا بغداد تحديدا ؟ والإجابة على هذا السؤال تحتم على الباحث النظر في جغرافية المنطقة آنئذ .
بغداد دار السلام ، قبل أن يدخلها الإسلام كانت مركز الإمبراطورية الفارسية ذلك الشعب العريق في الحضارة والمحمل بثقافات متنوعة قضى الإسلام على بعضها والبعض الأخر ظل مترسب في أعماق الفارسيين . وغير بعيد عن بلاد الفرس كانت الهند ارض الثقافات وكانت شعوب تقطن جنوب غرب وشرق أسيا ، كلها احتكت حضاريا مع المسلمين هذا إذا نظرنا شرقا ، وإذا حولنا نظرنا غربا نجد أنفسنا أمام حضارة عظيمة فرضت سيطرتها على العالم القديم إلا وهي الإمبراطورية الرومانية وبين هذا وذاك قام المارد الإسلامي محطما ما يجب تحطيمه ومحتويا ما يجب احتوائه .
ولم يمضي وقت طويل حتى نشطت حركة علمية لا نظير لها وهذا تحت رعاية الخلفاء الذين حملوا على عاتقهم مهمة نشر العلم وبما أن الساحة الإسلامية كانت مكتفية بعلوم الشريعة وعلوم اللغة وكانت الحاجة ماسة للاطلاع على المنتوج الثقافي لدى الشعوب الأخرى الأرسخ قدما في هذا المجال وحدث هذا بفضل الترجمة ليزدهر العلم والثقافة بعد ذلك وفي هذا الزخم الثقافي كان للفلسفة نصيب وافر وبرع فيها علماء الإسلام وتجاوزوا الترجمة إلى التأليف وطرح الأفكار الجديدة . ومنه إذا تناولنا المسألة بشكل مجمل يمكن القول أن الفلسفة الإسلامية ما كانت لتظهر لولا توفر هذه العوامل الخارجية التي يمكن تقسيمها إلى قسمين ثقافات شرقية وتضم اليهود والمسحيين والديانات الارضية التي ظهرت في الهند والفرس والثقافة يونانية .
والمتصفح لمؤلفات فلاسفة الإسلام يكتشف سيطرة الفكر اليوناني على توجهاتهم بل إنهم يصرحون باحترامهم الشديد للفلاسفة اليونانيين، فهذا الفارابي يعرف بالمعلم الثاني ، ولما نعلم أن أرسطو هو المعلم الأول نكتشف قيمة الأول عند الثاني ، وابن رشد مقتنع بأنه مجرد شارح لكتب أرسطو ، فعرف باسم الشارح . ضف إلى هذا أن تصانيفهم مؤلفة بالطريقة المعهودة عند اليونانيين وتقسيمهم للمواضيع لا اختلاف فيه ، حيث نجد مباحث ما وراء الطبيعة والطبيعيات والأخلاق والسياسة بنفس النظام المعهود في الفلسفة اليونانية . أما اثر الثقافة الشرقية فبالكاد نعثر عليه . ويبدو أننا نتكلم عن تقليد أو انتحال وليس مجرد تأثير وتأثر ولكن ما العمل إذا كان هؤلاء منبهرون بالفكر اليوناني ، إن ابن رشد يصف أرسطو بأنه فيلسوف الهي ، ومنه إن كان من جديد أبدعه فلاسفة الإسلام ، فهو ذلك الشرح الجيد للفلسفة اليونانية ، والمحافظة عليها ، لتعود مرة أخرى إلى أوروبا في القرون الوسطى .
من مظاهر الفلسفة الإسلامية
علم الكلام
يسأل الأشعري أستاذه ألمعتزلي أبا على الجبائي ، ما حال ثلاثة إخوة يوم القيامة ، الأكبر مات مؤمن والثاني مات فاسق والثالث مات صغيرا غير مكلف ؟ فأجاب الجبائي : الأول في الدرجات ، والثاني في الدركات ، والثالث فمنزلته بين المنزلتين . لكن الأشعري قال : لو جادل الطفل الصغير في الأمر، وقال لو أبقاني الله حيا لكنت مؤمنا وأدركت مرتبة أخي الأكبر ، وأكون من أهل الدرجات . فرد عليه الجبائي : إن الله اعلم بمصير هذا الطفل ، وأنه سيكون من الضالين فعجل بموته ، وكان ذلك في مصلحته . لكن الأشعري يتدخل قائلا : قد يعترض الأخ الأوسط ويقول لماذا لم تراعي مصلحتي يا ربي كما راعيت مصلحة أخي الأصغر، لو امتني صغيرا قبل أن أصبح فاسقا لكان خيرا . مثل هذه المسائل كثيرة خاصة عند المعتزلة وبعض الفرق الكلامية وهي عموما تكشف عن درجة التطور الفكري الذي وصلت إليه العقلية الإسلامية بعد تأثرها بالفلسفة اليونانية وطرق الإقناع التي يوفرها المنطق الأرسطي بالإضافة إلى الاطلاع على الجدل الذي كان يدور بين اليهود والمسيحيين ، كل ذلك ساهم في ظهور علم الكلام في الفكر الإسلامي .
مفهوم علم الكلام
الكلام في اللغة هو اللفظ الدال على معنى أو هو التعبير عن المعاني بالألفاظ ، أما علم الكلام فهو العلم بما تثبت به العقائد الإسلامية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها ، ويرادفه علم أصول الدين ، وعلم التوحيد ، ويسمى اللاهوت عند النصارى ، ويعرفه ابن خلدون بقوله هو " علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب أهل السلف وأهل السنة " وسبب هذه التسمية ـ علم الكلام ـ يعود إلى اهتمام علماء الكلام بمسألة كلام الله وخلق القران ، أو بسبب استعمالهم للكلام في مناظرتهم ، أو لأنهم تكلموا في قضايا سكت عنها السلف .
عوامل نشأة علم الكلام
1 ـ مشكلة الخلافة
الصراعات السياسية في صدر الإسلام لها دور أساسي في ظهور علم الكلام خاصة ما تعلق بشرعية خلافة عثمان بن عفان ومقتله والنزاع الذي قام بين الأحزاب السياسية عقب ذلك ، بين مؤيد لعلي بن أبي طالب كخليفة لعثمان ، وبين من اتهمه بقتله . ليتحول الخلاف إلى حرب بين أولياء عثمان بن عفان ممثلين في عائشة وبني أمية وأتباع علي بن أبي طالب فكانت معركة الجمل . وبعدها انشق معاوية بن أبي سفيان ورفض البيعة لعلي واستحوذ على الشام ، فما كان من علي بن أبي طالب إلا إعلان الحرب وكانت معركة صفين ، التي انتهت بتحكيم كتاب الله في النزاع القائم ، ثم نشأ الخلاف مرة أخرى بعد رفض نتيجة التحكيم . وهكذا تواصلت الأحداث الدامية بين المسلمين إلى أن قًتل علي بن أبي طالب غدرا ، واستقرت السلطة أخيرا عند الأمويين . هذا الصراع السياسي كان ذو طابع ديني أيضا ، فكان الجدال حول الخلافة ومن هو الأحق بها ؟ وهل من شروط الخلافة النسب القرشي ؟ أم أنها ممكنة لكل مسلم ؟ ثم إن هذه الحروب أدت إلى ارتكاب الكبائر ، وهنا تسأل علماء الكلام حول مرتكب الكبيرة ، هل هو كافر أم مؤمن أم هو فاسق؟ أم يترك حكمه إلى لله ؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت من أسباب لظهور علم الكلام .
2 ـ القرآن :
يحتوي القران على آيات تخاطب العقل ، تثبت الربوبية والمعاد والقيامة ، ومن هذه قوله تعالى : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} – البقرة 163 وقوله أيضا {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماءا فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} - الروم 23 ،
بالإضافة إلى اشتمال القران على آيات محكمات وآيات متشابهة . {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وإذا كانت الآيات المحكمة واضحة لا غموض فيها ولا التباس، كآيات الحلال والحرام التي هي أصل التشريع، فإن الآيات المتشابهة غير ذلك فهي تحتمل أكثر من تأويل . كما أن القرآن يظم آيات ناسخة وأخرى منسوخة كانت مثار جدل بين العلماء . والمقصود بالنسخ هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فالحكم المرفوع يسمى المنسوخ، والدليل الرافع يسمى الناسخ، ويسمى الرفع النسخ. وله ثلاثة أنواع :1- نسخ التلاوة والحكم معاً 2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم 3- نسخ الحكم وبقاء التلاوة . وهذا فتح المجال للجدل حول الآيات الناسخة والمنسوخة .
ومن أمثلة النسخ ما ورد في قيام الليل . فالآية المنسوخة هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا}[المزمل: 1- 3]. الآية الناسخة: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]. والنسخ هنا أن وجوب قيام الليل ارتفع بما تيسر، أي لم يَعُدْ واجباً.
3 ـ الدفاع عن العقيدة
تعرض الإسلام إلى مواجهة من الداخل حيت ظهرت أراء غريبة عن العقيدة الإسلامية ادخلها من أعلن الإسلام وهو يبطن الكراهية له من أهل الديانات الأخرى معتمدا في ذلك على الفلسفة اليونانية ، فتطلب الرد عليهم بنفس السلاح .
إشكالية العقل والنقل في الفكر الفلسفي الإسلامي
الصراع بين الدين والفلسفة
العرب في جاهليتهم لم يشتغلوا بعلوم الفلسفة رغم ازدهارها في بلاد اليونان ولم يظهر التفكير الفلسفي عندهم إلا بعد ظهور الإسلام فبرزت معه أهمية العقل والتفكير ونشأ علم الكلام للدفاع عن العقيدة بعد التسليم بها ثم توطدت أركان الفلسفة بعد ترجمة الكتب ونقل الفكر اليوناني إلى العربية . لكن ثمة من وقف موقفا سلبيا من الفلسفة ، مكتفيا بظاهر النص والإجماع . وهنا برز الصراع بين نزعتين الدينية والعقلية ، وتتمثل الأولى في الاشاعرة والثانية في المعتزلة والفلاسفة المسلمين ، وقد بلغ الصراع ذروته مع الغزالى وابن رشد من خلال كتابيهما تهافت الفلاسفة للغزالي وتهافت التهافت لابن رشد ، و هذه المشادة لم تكن الحلقة الأخيرة في الصراع الدائر بين الفلسفة والدين مع كونها الحلقة الكبرى .
إن إشكالية العلاقة بين الدين والعقل قديمة وطالت كل الديانات خاصة السماوية منها ، وهذا ما حدث عند المسلمين ، حيث ظهرت فئة منهم تلتزم بالنص، وفئة تعتمد العقل وتأويل النصوص ، وفئة حاولت التوفيق بين الدين والفلسفة
موقف الغـزالي من الفلسفة
ناهض أبو حامد محمد الغزالي 450 هـ 1059 ـ 505 هـ 1111 الفلسفة في كتابه تهافت الفلاسفة وفيه وعدد اغاليط الفلاسفة فوجدها عشرين مسألة ، كفرهم في بعضها ، مثل قولهم بقدم العالم ، فاثبت إن العالم حادث عن طريق واجب الوجود وإمكانية الوجود ، واثبت أن الله كما يعلم الكليات يعلم الجزئيات في حين الفلاسفة في نظره ينفون ذلك . ويعتمد الغزالي على العقل في بحث العلوم العقلية كالرياضيات ، لكن في العلوم الشرعية يستبعد العقل لأنها علوم تُأخذ عن طريق الوحي من قبل الأنبياء والرسل .
موقف ابن رشد من الفلسفة
يؤمن ابن رشد 520 هـ 1126 م 595 هـ 1198م بقدرة العقل على معالجة قضايا الشريعة ، مادام لا يتناقض مع الشرع ، خاصة وأن القرآن دعا إلى اعتبار استخدام العقل مثل قوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الإبصار } وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي ، ويرى أن العقل حق والشريعة حق والحق لا يضاد الحق وفصل هذا في كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال . ولهذا هاجم الغزالي في تسفيهه للفلاسفة وألف كتاب يرد فيه على كتاب الغزالي اسماه تهافت التهافت . ويرى إن الشريعة تخاطب جميع الناس على اختلاف مستوياتهم العقلية فتخاطب الفلاسفة بالبرهان العقلي ، والمتكلمين بالبرهان الجدلي وعامة الناس بالبرهان الخطابي . ويرى أن نصوص الشريعة لها باطن وظاهر والباطن في حاجة إلى تأويل يتفق مع العقل وينسجم مع روح الشريعة الإسلامية وكان أفضل مدافع عن الفلسفة وأصالة العقل وقدرته على البث في قضايا الشريعة .
إمكانية التوفيق بين العقل والنقل
المتأمل في موقف الغزالي وابن رشد لا يجد التطرف الذي يتميز به بعض الكلاميين كالمعتزلة أو بعض الفقهاء ، فكلاهما يعمل على حفظ الشريعة وكلاهما يعترف بدور العقل ولكن الاختلاف في الأولوية ومدى قدرات العقل الإنساني. وبالتالي يمكن أن نخلص إلى تأكيد التكامل بين العقل والشريعة ، وهذا يضمن عدم تطاول العقل ، ويحفظ الشريعة من التكلس والتجمد ، وهذا التوفيق يمثل بحق روح الفلسفة الإسلامية.
خاتمة
إن الفلسفة الإسلامية جزء لا يتجزأ من التراث الفكري العالمي وإذ نتصورها تنهل من معين فلسفة عالمية فإنها في الآن نفسه تنهل من مصدر أصيل هو الإسلام كعقيدة عالمية أيضا ، فاستوعبت الثقافتين ، وهي قادرة على استيعاب مستجدات العصر أيضا. .
الفرق الاسلامية
الجبرية
هي الثقافة التى ترَسّخُ فى الأذهان الاعتقاد بأن إرادة الله هى التى سلّطت على العبيد الظلم بسبب ذنوبهم ، وأن الاعتراض على الظالم والظلم هو اعتراض على المشيئة الالهية ، وأن انتقاد الظالم هو اعتراض على القدر الالهى. إنها الجبرية التى برع فيها الأمويون واضعي الدين السّنى و صانعي الأحاديث التى توجب السمع والطاعة للحاكم وأن طاعة سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ، وانه لا يجوز الخروج على الحاكم مهما فعل. لهذا يسعى كل المستبدون لترويج الى هذه الثقافة حتى يعتنق المجتمع ثقافة العبيد و يؤمن أن البؤس الذى يعيش فيه قدر إلاهيا لا فكاك منه وأنه من سنن الحياة حتى يرضى بالظلم و لا يثور.
يعمل فقهاء الدين السّنى على تقعيد الاستكانة والرضى بالاستبداد من خلال تحكيم الشريعة و أقامة الخلافة حتى ينتشر ظل اللـه في الأرض وينطق الخليفة بلسـانه ،ويضرب بسـيفه ،وينهب باسمه و بعدها يصبح كل معارض سياسي يتجرأ على نقد ممثل الله فى الأرض كافر و زنديق مباحا دمه.
الحاكم الذى يدعى تطبيق الشريعة هو حاكم مقدس فى اعتقاد الجبرية و حتى ان كان مستبد فهو يمثل إرادة الله في الأرض ،فلا تجوز معارضـته سـياسيا.
يقف ضد الجبرية أحرار المسلمين الذين سموهم : القدرية. أولئك الأحرار قالوا - لا قدر والأمر أنف - أى إن الظلم ليس بقدر الله ولكن رغم أنوف الناس ،أى بقهر الناس. هذه هى (القدرية) أو مذهب الارادة الانسانية الحرة الذى يوجب مقاومة الظلم لأنه فعل بشرى وليس إرادة إلاهية ،ولأن الله جل وعلا لا يريد ظلما للعالمين وقد حرّم الظلم وفرض مقاومته واعتبره كفرا فى السلوك ، وإذا تم تسويغه بمبرر دينى أصبح أيضا كفرا فى العقيدة.
المعتزلة
التعريف:
المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية (*) والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال، واتجهت هذه الرؤية وجهتين:
ـ الوجهة الأولى: أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على مرتكب الكبيرة (*)، والحديث في القدر، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر، ومن رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب:
1 ـ أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين
2 ـ أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حقلة خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن: "اعتزلنا واصل".
3 ـ أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته .
ـ والوجهة الثانية: أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين.
• أما القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ مؤرخ المعتزلة ـ فيزعم أن الاعتزال ليس مذهباً جديداً أو فرقة طارئة أو طائفة أو أمراً مستحدثاً، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من اعتزل الشر سقط في الخير).
• والواقع أن نشأة الاعتزال كان ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية لما سنرى في فقرة (الجذور الفكرية والعقائدية) .
• قبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء، كان هناك جدل (*) ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي وهذه المقولات نوجزها مع أصحابها بما يلي:
ـ مقولة أن الإنسان حر مختار بشكل مطلق، وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه قالها: معبد الجهني، الذي خرج على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث .. وقد قتله الحجاج عام 80هـ بعد فشل الحركة .
ـ وكذلك قالها غيلان الدمشقي في عهد عمر بن عبد العزيز وقتله هشام بن عبد الملك .
ـ ومقولة خلق القرآن ونفي الصفات، قالها الجهم بن صفوان، وقد قتله سلم بن أحوز في مرو عام 128هـ .
ـ وممن قال بنفي الصفات أيضاً: الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة .
• ثم برزت المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال (80هـ ـ 131هـ) الذي كان تلميذاً للحسن البصري، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة (*) في منزلة بين المنزلتين (أي ليس مؤمناً ولا كافراً) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى: الواصيلة.
• ولاعتماد المعتزلة على العقل في فهم العقائد وتقصيهم لمسائل جزئية فقد انقسموا إلى طوائف مع اتفاقهم على المبادئ الرئيسة الخمسة ـ التي سنذكرها لاحقاً ـ وكل طائفة من هذه الطوائف جاءت ببدع جديدة تميزها عن الطائفة الأخرى .. وسمت نفسها باسم صاحبها الذي أخذت عنه .
• وفي العهد العباسي برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي وثمامة بن أشرس وأحمد بن أبي دؤاد وهو أحد رؤوس بدعة الاعتزال في عصره ورأس فتنة خلق القرآن، وكان قاضياً للقضاة في عهد المعتصم.
ـ في فتنة خلق القرآن امتحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة، فسجن وعذب وضرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون وبقي في السجن لمدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزله وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق .
ـ لما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ انتصر لأهل السنة (*) وأكرم الإمام أحمد وأنهى عهد سيطرة المعتزلة على الحكم ومحاولة فرض عقائدهم بالقوة خلال أربعة عشر عاماً .
• في عهد دولة بني بويه عام 334 هـ في بلاد فارس ـ وكانت دولة شيعية ـ توطدت العلاقة بين الشيعة (*) والمعتزلة وارتفع شأن الاعتزال أكثر في ظل هذه الدولة فعين القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضياً لقضاء الري عام 360هـ بأمر من الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي ، وهو من الروافض (*) المعتزلة، يقول فيه الذهبي: " وكان شيعيًّا معتزليًّا مبتدعاً " ويقول المقريزي: " إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر "
• وممن برز في هذا العهد: الشريف المرتضى الذي قال عنه الذهبي: " وكان من الأذكياء والأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد ".
• بعد ذلك كاد أن ينتهي الاعتزال كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم .
• عاد فكر الاعتزال من جديد في الوقت الحاضر، على يد بعض الكتاب والمفكرين، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث .
• ومن أبرز مفكري المعتزلة منذ تأسيسها على يد واصل بن عطاء وحتى اندثارها وتحللها في المذاهب الأخرى كالشيعة والأشعرية والماتريدية ما يلي:
ـ أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف (135 ـ226 هـ) مولى عبد القيس وشيخ المعتزلة والمناظر عنها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، فقد تأثر بأرسطو وأنبادقليس من فلاسفة اليونان، وقال بأن " الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته … " انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 76 . وتسمى طائفة الهذيلية .
ـ إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام (توفي سنة 231هـ) وكان في الأصل على دين البراهمة (*) وقد تأثر أيضاً بالفلسفة اليونانية مثل بقية المعتزلة .. وقال:بأن المتولدات من أفعال الله تعالى، وتسمى طائفته النظامية .
ـ بشر بن المعتمر (توفي سنة 226 هـ) وهو من علماء المعتزلة، وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه فقال: إن كل المتولدات من فعل الإنسان فهو يصح أن يفعل الألوان والطعوم والرؤية والروائح وتسمى طائفته البشرية.
ـ معمر بن عباد السلمي (توفي سنة 220 هـ) وهو من أعظم القدرية (*) فرية في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر (*) خيره وشره من الله وتسمى طائفته: المعمرية .
ـ عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار (توفي سنة 226هـ) وكان يقال له: راهب المعتزلة، وقد عرف عنه التوسع في التكفير (*) حتى كفر الأمة بأسرها بما فيها المعتزلة، وتسمى طائفته المردارية .
ـ ثمامة بن أشرس النميري (توفي سنة 213هـ)، كان جامعاً بين قلة الدين وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة . وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين . وكان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق وقيل إنه الذي أغرى المأمون ودعاه إلى الاعتزال، وتسمى طائفته الثمامية .
ـ عمرو بن بحر: أبو عثمان الجاحظ (توفي سنة 256هـ) وهو من كبار كتاب المعتزلة، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة، ونظراً لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدس أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم مثل، البيان والتبيين، وتسمى فرقته الجاحظية .
ـ أبو الحسين بن أبي عمر الخياط (توفي سنة 300هـ) من معتزلة بغداد و بدعته التي تفرد بها قوله بأن المعدوم جسم، والشيء المعدوم قبل وجوده جسم، وهو تصريح بقدم العالم، وهو بهذا يخالف جميع المعتزلة وتسمى فرقته الخياطية .
ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني (توفي سنة 414هـ) فهو من متأخري المعتزلة، قاضي قضاة الري وأعمالها، وأعظم شيوخ المعتزلة في عصره، وقد أرخ للمعتزلة وقنن مبادئهم وأصولهم الفكرية والعقدية.
المبادئ والأفكار:
• جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبتدعتين:
ـ الأولى: القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل، فهو يخلق أفعاله بنفسه، ولذلك كان التكليف، ومن أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي، الذي أخذ يدعو إلى مقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز . حتى عهد هشام بن عبد الملك، فكانت نهايته أن قتله هشام بسبب ذلك .
ـ الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة (*) ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه فاسق فهو بمنزلة بين المنزلتين، هذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلماً باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمناً.
• ثم حرر المعتزلة مذهبهم في خمسة أصول:
1 ـ التوحيد .
2 ـ العدل .
3 ـ الوعد والوعيد .
4 ـ المنزلة بين المنزلتين .
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
1 ـ التوحيد: وخلاصته برأيهم، هو أن الله تعالى منزه عن الشبيه والمماثل (ليس كمثله شيء) ولا ينازعه أحد في سلطانه ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس. وهذا حق ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها: استحالة رؤية الله تعالى لاقتضاء ذلك نفي الصفات، وأن الصفات ليست شيئاً غير الذات، وإلا تعدد القدماء في نظرهم، لذلك يعدون من نفاة الصفات وبنوا على ذلك أيضاَ أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام.
2 ـ العدل: ومعناه برأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد، ولا يحب الفساد، بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه . وذلك لخلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية (*) وإرادته الشرعية (*) .
3 ـ الوعد والوعيد: ويعني أن يجازي الله المحسن إحساناً ويجازي المسيء سوءاً، ولا يغفر لمرتكب الكبيرة (*) إلا أن يتوب .
4 ـ المنزلة بين المنزلتين: وتعني أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا كافر . وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة .
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد قرروا وجوب ذلك على المؤمنين نشراً لدعوة الإسلام وهداية للضالين وإرشاداً للغاوين كل بما يستطيع: فذو البيان ببيانه، والعالم بعلمه، وذو السيف بسيفه وهكذا . ومن حقيقة هذا الأصل أنهم يقولون بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق .
• ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل (*) كليًّا في الاستدلال لعقائدهم وكان من آثار اعتمادهم على العقل في معرفة حقائق الأشياء وإدراك العقائد، أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلاً فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني: " المعارف كلها معقولة بالفعل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل، والحسن والقبيح (*) صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح " .
ـ ولاعتمادهم على العقل أيضاً أوَّلوا الصفات بما يلائم عقولهم الكلية، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها .
ـ ولاعتمادهم على العقل أيضاً، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب، فقد زعم واصل بن عطاء: أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم .
ـ وسبب اختلاف المعتزلة فيما بينهم وتعدد طوائفهم هو اعتمادهم على العقل فقط ـ كما نوهنا ـ وإعراضهم عن النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة، ورفضهم الإتباع بدون بحث واستقصاء وقاعدتهم التي يستندون إليها في ذلك:
" كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده في أصول الدين "، فيكفي وفق مذهبهم أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ليكون هذا التلميذ صاحب فرقة قائمة، وما هذه الفرق التي عددناها آنفاً إلا نتيجة اختلاف تلاميذ مع شيوخهم، فأبو الهذيل العلاف له فرقة، خالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة، فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة، والجبائي له فرقة، فخالفه ابنه أبو هاشم عبد السلام فكانت له فرقة أيضاَ وهكذا .
ـ وهكذا نجد أن المعتزلة قد حولوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وذلك لتأثرهم بالفلسفة (*) اليونانية عامة وبالمنطق (*) الصوري الأوسطي خاصة .
• وقد فند علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم، ثم خرج من فرقتهم ورد عليهم متبعاً أسلوبهم في الجدال (*) والحوار .. ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن ووقف في وجه هذه الفتنة بحزم وشجاعة نادرتين .
ـ ومن الردود قوية الحجة، بارعة الأسلوب، رد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عليهم في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل فقد تتبع آراءهم وأفكارهم واحدة واحدة ورد عليها ردًّا مفحماً .. وبين أن صريح العقل لا يكمن أن يكون مخالفاً لصحيح النقل .
• وقد ذُكر في هذا الحديث أكثر من مرة أن المعتزلة اعتمدوا على العقل (*) في تعاملهم مع نصوص الموحي (*)، وقد يتوهم أحد أن الإسلام ضد العقل ويسعى للحجر عليه . ولكن هذا يرده دعوة الإسلام إلى التفكر في خلق السموات والأرض والتركيز على استعمال العقل في اكتشاف الخير والشر وغير ذلك مما هو معروف ومشهور مما دعا العقاد إلى أن يؤلف كتاباً بعنوان: التفكر فريضة إسلامية، ولهذا فإن من انحرافات المعتزلة هو استعمالهم العقل في غير مجاله: في أمور غيبية مما تقع خارج الحس ولا يمكن محاكمتها محاكمة عقلية صحيحة، كما أنهم بنوا عدداً من القضايا على مقدمات معينة فكانت النتائج ليست صحيحة على إطلاقها وهو أمر لا يسلّم به دائماً حتى لو اتبعت نفس الأساليب التي استعملوها في الاستنباط والنظر العقلي: مثل نفيهم الصفات عن الله اعتماداً على قوله تعالى: (ليس كمثله شيء). وكان الصحيح أن لا تنفى عنه الصفات التي أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى ولكن تفهم الآية على أن صفاته سبحانه وتعالى لا تماثل صفات المخلوقين.
وقد حدد العلماء مجال استعمال العقل بعدد من الضوابط منها:
ـ أن لا يتعارض مع النصوص الصحيحة .
ـ أن لا يكون استعمال العقل في القضايا الغيبية التي يعتبر الوحي هو المصدر الصحيح والوحيد لمعرفتها.
ـ أن يقدم النقل على العقل في الأمور التي لم تتضح حكمتها " وهو ما يعرف بالأمور التوقيفية".
ولا شك أن احترام الإسلام للعقل وتشجيعه للنظر والفكر لا يقدمه على النصوص الشرعية الصحيحة . خاصة أن العقول متغيرة وتختلف وتتأثر بمؤثرات كثيرة تجعلها لا تصلح لأن تكون الحكم المطلق في كل الأمور . ومن المعروف أن مصدر المعرفة في الفكر الإسلامي يتكون من:
1 ـ الحواس وما يقع في مجالها من الأمور الملموسة من الموجودات .
2 ـ العقل (*) وما يستطيع أن يصل إليه من خلال ما تسعفه به الحواس والمعلومات التي يمكن مشاهدتها واختبارها وما يلحق ذلك من عمليات عقلية تعتمد في جملتها على ثقافة الفرد ومجتمعه وغير ذلك من المؤثرات .
3 ـ الوحي (*) من كتاب وسنة حيث هو المصدر الوحيد والصحيح للأمور الغيبية، وما لا تستطيع أن تدركه الحواس، وما أعده الله في الدار الآخرة، وما أرسل من الرسل إلخ …
وهكذا يظهر أنه لا بد من تكامل العقل والنقل في التعامل مع النصوص الشرعية كل فيما يخصه وبالشروط التي حددها العلماء.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي.
وقيل: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية ـ وهي فرقة هندية تؤمن بالتناسخ (*) ـ قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات .
• إن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد مورداً من موارد الفكر الاعتزالي، إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية حرية الإرادة الإنسانية .
ـ ونفي القدر عند المعتزلة الذي ظهر على يد الجهني وغيلان الدمشقي، قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو يونس سنسويه وقد أخذ عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء فكرة نفي القدر عن معبد الجهني .
ـ تأثر المعتزلة بفلاسفة (*) اليونان في موضوع الذات والصفات، فمن ذلك قول أنبادقليس الفيلسوف اليوناني: "إن الباري تعالى لم يزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة، والقدرة والعدل والخير والحق، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو، وهو هذه كلها" انظر الملل والنحل ج 2/ ص58.
وكذلك قول أرسطوطاليس في بعض كتبه "إن الباري علم كله، قدره كله، حياة كله، بصر كله".
فأخذ العلاف وهو من شيوخ المعتزله هذه الأفكار وقال: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته.
ـ وأخذ النظام من ملاحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجرأ، ثم بنى عليه قوله بالطفرة، أي أن الجسم يمكن أن يكون في مكان (أ) ثم يصبح في مكان (ج) دون أن يمر في (ب) .
وهذا من عجائبه حتى قيل: إن من عجائب الدنيا: " طفرة النظام وكسب الأشعري " .
ـ وإن أحمد بن خابط والفضل الحدثي وهما من أصحاب النظام قد طالعا كتب الفلاسفة ومزجا الفكر الفلسفي مع الفكر النصراني مع الفكر الهندي وقالا بما يلي:
1 ـ إن المسيح (*) هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة.
2 ـ إن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة.
3 ـ القول بالتناسخ (*).
4 ـ حملا كل ما ورد في الخبر عن رؤية الله تعالى على رؤية العقل الأول هو أول مبتدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات .
• يؤكد العلماء تأثير الفلسفة (*) اليونانية على فكر المعتزلة بما قام به الجاحظ وهو من مصنفي المعتزلة ومفكريهم فقد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وتمذهب بمذهبهم ـ حتى إنه خلط وروج كثيراً من مقالاتهم بعبارته البليغة .
ـ ومنهم من يرجع فكر المعتزلة إلى الجذور الفكرية والعقدية في العراق ـ حيث نشأ المعتزلة ـ الذي يسكنه عدة فرق تنتهي إلى طوائف مختلفة، فبعضهم ينتهي إلى الكلدان وبعضهم إلى الفرس وبعضهم نصارى وبعضهم يهود وبعضهم مجوس (*). وقد دخل هؤلاء في الإسلام وبعضهم قد فهمه على ضوء معلوماته القديمة وخلفيته الثقافية والدينية.
الفكر الاعتزالي الحديث:
• يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد .. فألبسوه ثوباً جديداً، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل … العقلانية أو التنوير أو التجديد (*) أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي ..
ـ وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل (*) الإنساني .. فلجأوا إلى التأويل (*) كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات (*) المادية .. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل .. إلا من هذا القبيل .
• وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر .
• وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي .. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة .. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد (*)، والحدود، وغير ذلك .. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث .. إلخ .. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله .. وتحكيم العقل في هذه المواضيع . ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر .
• ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة و المرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه: " أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا . هذا في البلاد العربية .
أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب سير من قبل الاستعمار (*) البريطاني . وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع وأحلّ الربا البسيط في المعاملات التجارية . ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين (*)، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم .
ـ وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة .
ـ ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام .. مثل زكي نجيب محمود صاحب (الوضعية المنطقية) وهي من الفلسفة (*) الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي .. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة (انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص 123) .
ـ ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤهم، ويقول في كتابه: ضحى الإسلام: " في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة " (ج3 ص207).
ـ ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج (*) العقلي الاعتزالي في تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور .. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: " إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد (*) عقلي كبير، وللعقل (*) سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً " (انظر كتاب المعتزلة بين القديم والحديث ص 138) .
وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجتهاد (*) وتطويره، وتقييم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية .. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة ـ صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه ـ وخالد محمد خالد و محمد سليم العوا، وغيرهم . ولا شك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية (*) ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه ـ اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلاً من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب إتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة .
ويتضح مما سبق:
أن حركة المعتزلة كانت نتيجة لتفاعل بعض المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون . وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة وذلك دفاعاً ع الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بالأسلوب الذي يفهمونه . ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة كما فعل المعتزلة في إنكار الصفات الإلهية تنزيهاً لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين .
ومن الواضح أيضاً أن أتباع المعتزلة الجدد وقعوا فيما وقع فيه أسلافهم، وذلك أن ما يعرضون الآن من اجتهادات إنما الهدف منها أن يظهر الإسلام بالمظهر المقبول عند أتباع الحضارة الغربية والدفاع عن نظامه العام قولاً بأنه إنْ لم يكن أحسن من معطيات الحضارة الغربية فهو ليس بأقل منها .
ولذا فلا بد أن يتعلم الخلف من أخطاء سلفهم ويعلموا أن عزة الإسلام وظهوره على الدين كله هي في تميز منهجه وتفرد شريعته واعتباره المرجع الذي تقاس عليه الفلسفات والحضارات في الإطار الذي يمثله الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح في شمولهما وكمالهما.
الاشاعرة
التعريف:
الأشاعرة: فرقة كلامية إسلامية، تنسب لأبي الحسن الأشعري الذي خرج على المعتزلة. وقد اتخذت الأشاعرة البراهين والدلائل العقلية والكلامية وسيلة في محاججة خصومها من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، لإثبات حقائق الدين (*) والعقيدة الإسلامية على طريقة ابن كلاب.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• أبو الحسن الأشعري: هو أبو الحسن علي بن إسماعيل، من ذرية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولد بالبصرة سنة 270هـ ومرت حياته الفكرية بثلاث مراحل:
ـ المرحلة الأولى: عاش فيها في كنف أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره وتلقى علومه حتى صار نائبه وموضع ثقته . ولم يزل أبو الحسن يتزعم المعتزلة أربعين سنة .
ـ المرحلة الثانية: ثار فيه على مذهب الاعتزال الذي كان ينافح عنه، بعد أن اعتكف في بيته خمسة عشر يوماً، يفكر ويدرس ويستخير الله تعالى حتى اطمأنت نفسه، وأعلن البراءة من الاعتزال وخط لنفسه منهجاً جديداً يلجأ فيه إلى تأويل النصوص بما ظن أنه يتفق مع أحكام العقل (*) وفيها اتبع طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب في إثبات الصفات السبع عن طريق العقل: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، أما الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق فتأولها على ما ظن أنها تتفق مع أحكام العقل وهذه هي المرحلة التي ما زال الأشاعرة عليها .
ـ المرحلة الثالثة: إثبات الصفات جميعها لله تعالى من غير تكييف(*) ولا تشبيه(*) ولا تعطيل(*) ولا تحريف(*) ولا تبديل ولا تمثيل، وفي هذه المرحلة كتب كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي عبّر فيه عن تفضيله لعقيدة السلف ومنهجهم ، الذي كان حامل لوائه الإمام أحمد بن حنبل. ولم يقتصر على ذلك بل خلّف مكتبة كبيرة في الدفاع عن السنة وشرح العقيدة تقدّر بثمانية وستين مؤلفاً، توفي سنة 324هـ ودفن ببغداد ونودي على جنازته: "اليوم مات ناصر السنة".
• بعد وفاة أبو الحسن الأشعري، وعلى يد أئمة المذهب(*) وواضعي أصوله وأركانه، أخذ المذهب الأشعري أكثر من طور، تعددت فيها اجتهاداتهم ومناهجهم في أصول المذهب وعقائده، و ما ذلك إلا لأن المذهب لم يبن في البداية على منهج مؤصل، واضحة أصوله الاعتقادية، ولا كيفية التعامل مع النصوص الشرعية، بل تذبذبت مواقفهم واجتهاداتهم بين موافقة مذهب السلف واستخدام علم الكلام لتأييد العقيدة والرد على المعتزلة . من أبرز مظاهر ذلك التطور:
ـ القرب من أهل الكلام والاعتزال .
ـ الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به .
ـ الدخول في الفلسفة (*) وجعلها جزء من المذهب .
• من أبرز أئمة المذهب:
ـ القاضي أبو بكر الباقلاني: (328ـ402هـ) (950ـ1013م) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، من كبار علماء الكلام، هذَّب بحوث الأشعري، وتكلَّم في مقدمات البراهين العقلية للتوحيد وغالى فيها كثيراً إذ لم ترد هذه المقدمات في كتاب ولا سنة، ثم انتهى إلى مذهب السلف وأثبت جميع الصفات كالوجه واليدين على الحقيقة وأبطل أصناف التأويلات التي يستعملها المؤولة وذلك في كتابه: تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل . ولد في البصرة وسكن بغداد وتوفي فيها . وجهه عضد الدولة سفيراً عنه إلى ملك الروم، فجرت له في القسطنطينية مناظرات مع علماء النصرانية بين يدي ملكها . من كتبه: إعجاز القرآن، الإنصاف، مناقب الأئمة، دقائق الكلام، الملل والنحل، الاستبصار، تمهيد الأوائل ، كشف أسرار الباطنية .
ـ أبو إسحاق الشيرازي: (293ـ476هـ) (1003ـ1083م) . وهو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي، العلامة المناظر، ولد في فيروز أباد بفارس وانتقل إلى شيراز، ثم البصرة ومنها إلى بغداد سنة (415هـ) . وظهر نبوغه في الفقه الشافعي وعلم الكلام(*)، فكان مرجعاً للطلاب ومفتياً للأمة في عصره، وقد اشتهر بقوة الحجة في الجدل(*) والمناظرة . بنى له الوزير نظام الملك: المدرسة النظامية على شاطئ دجلة، فكان يدرس فيها ويديرها .
من مصنفاته: التنبيه والمهذَّب في الفقه، والتبصرة في أصول الشافعية، وطبقات الفقهاء، واللمع في أصول الفقه وشرحه، والملخص، والمعونة في الجدل .
• أبو حامد الغزالي: (450ـ505هـ) (1058ـ1111م) وهو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، ولد في الطابران، قصبة طوس خراسان وتُوفِّي بها . رحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد، فالحجاز، فبلاد الشام، فمصر ثم عاد إلى بلدته .
لم يسلك الغزالي مسلك الباقلاني، بل خالف الأشعري في بعض الآراء وخاصة فيما يتعلق بالمقدمات العقلية في الاستدلال، وذم علم الكلام وبيَّن أن أدلته لا تفيد اليقين كما في كتبه المنقذ من الضلال، وكتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة (*)، وحرم الخوض فيه فقال: " لو تركنا المداهنة لصرحنا بأن الخوض في هذا العلم حرام " . اتجه نحو التصوف، واعتقد أنه الطريق الوحيد للمعرفة .. وعاد في آخر حياته إلى السنة من خلال دراسة صحيح البخاري .
• أبو إسحاق الإسفراييني: (ت418هـ) (1027م) وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، أبو إسحاق عالم بالفقه والأصول وكان يلقب بركن الدين وهو أول من لقب به من الفقهاء . نشأ في إسفرايين (بين نيسابور وجرجان) ثم خرج إلى نيسابور وبنيت له مدرسة عظيمة فدرس فيها، ورحل إلى خراسان وبعض أنحاء العراق، فاشتهر في العالم الإسلامي . ألَّف في علم الكلام (*) كتابه الكبير، الذي سماه الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين . قال ابن خلكان: رأيته في خمسة مجلدات . توفي أبو إسحاق الإسفراييني في يوم عاشوراء سنة عشرة وأربعمائة بنيسابور ثم نقل إلى إسفرايين ودفن بها وكان قد نيف على الثمانين .
• إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: (419ـ478هـ) (1028ـ1085م) . وهو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، الفقيه الشافعي ولد في بلد جوين (من نواحي نيسابور) ثم رحل إلى بغداد، فمكة حيث جاور فيها أربع سنين، وذهب إلى المدينة المنورة فأفتى ودرّس . ثم عاد إلى نيسابور فبنى له فيها الوزير نظام الملك المدرسة النظامية، وكان يحضر دروسه أكابر العلماء . وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، ودافع فيها عن الأشعرية فشاع ذكره في الآفاق، إلا أنه في نهاية حياته رجع إلى مذهب السلف . وقد قال في رسالته: النظامية والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة إتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة … ويعضد ذلك ما ذهب إليه في كتابه غياث الأمم في التياث الظلم، فبالرغم من أن الكتاب مخصص لعرض الفقه السياسي الإسلامي فقد قال فيه:" والذي أذكره الآن لائقاً بمقصود هذا الكتاب، أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات … " .
ـ نقل القرطبي في شرح مسلم أن الجويني كان يقول لأصحابه: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به" . توفي رحمه الله بنيسابور وكان تلامذته يومئذ أربعمائة . ومن مصنفاته : العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، البرهان في أصول الفقه، ونهاية المطلب في دراية المذهب في فقه الشافعية، والشامل في أصول الدين .
• الفخر الرازي (544هـ ـ 1150م) (606هـ ـ 1210م): هو أبو عبد الله محمد بن عمر الحسن بن الحسين التيمي الطبرستاني الرازي المولد، الملقب فخر الدين المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي قال عنه صاحب وفيات الأعيان " إنه فريد عصره ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام (*)، والمعقولات " أهـ، وهو المعبر عن المذهب (*) الأشعري في مرحلته الأخيرة حيث خلط الكلام بالفلسفة (*)، بالإضافة إلى أنه صاحب القاعدة الكلية التي انتصر فيها للعقل وقدمه على الأدلة الشرعية . قال فيه الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: (4/426 ـ 429): " كان له تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة، وكان يورد شبه الخصوم بدقة ثم يورد مذهب أهل السنة على غاية من الوهن " إلا أنه أدرك عجز العقل (*) فأوصى وصية تدل على حسن اعتقاده . فقد نبه في أواخر عمره إلى ضرورة إتباع منهج (*) السلف، وأعلن أنه أسلم المناهج بعد أن دار دورته في طريق علم الكلام (*) فقال: " لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية رأيتها لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات (الرحمن على العرش استوى) و (إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه)، و أقرأ في النفي (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) و (ولا يحيطون به علماً)، ثم قال في حسرة وندامة: "ومن جرب تجربتي عرف معرفتي " أهـ . (الحموية الكبرى لابن تيمية) .
من أشهر كتبه في علم الكلام: أساس التقديس في علم الكلام، شرح قسم الإلهيات من إشارات ابن سينا، واللوامع البينات في شرح أسماء الله تعالى والصفات، البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والضلال، كافية العقول.
الأفكار والمعتقدات:
• مصدر التلقي عند الأشاعرة: الكتاب والسنة على مقتضى قواعد علم الكلام ؛ ولذلك فإنهم يقدمون العقل على النقل عند التعارض، صرح بذلك الرازي في القانون الكلي للمذهب في أساس التقديس والآمدي وابن فورك وغيرهم .
ـ عدم الأخذ بأحاديث الآحاد(*) في العقيدة لأنها لا تفيد العلم اليقيني ولا مانع من الاحتجاج بها في مسائل السمعيات أو فيما لا يعارض القانون العقلي. والمتواتر(*) منها يجب تأويله، ولا يخفى مخالفة هذا لما كان عليه السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ومن سار على نهجهم حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الرسل فرادى لتبليغ الإسلام كما أرسل معاذاً إلى أهل اليمن، ولقوله صلى الله عليه وسلم : "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها … " الحديث، وحديث تحويل القبلة وغير ذلك من الأدلة .
ـ مذهب طائفة منهم وهم: صوفيتهم كالغزالي والجامي في مصدر التلقي، تقديم الكشف(*) والذوق على النص، وتأويل النص ليوافقه . ويسمون هذا "العلم اللدني" جرياً على قاعدة الصوفية "حدثني قلبي عن ربي" . وكما وضح ذلك في الرسالة اللدنية 1/114ـ118 من مجموعة القصور العوالي، وكبرى اليقينيات لمحمد سعيد رمضان البوطي، الإهداء ـ 32ـ35 . ولا يخفى ما في هذا من البطلان والمخالفة لمنهج (*) أهل السنة والجماعة (*) وإلا فما الفائدة من إرسال الرسل وإنزال الكتب .
• يقسم الأشاعرة أصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إلى ثلاثة أقسام:
ـ قسم مصدره العقل(*) وحده وهو معظم الأبواب ومنه باب الصفات ولهذا يسمون الصفات التي تثبت بالعقل " عقلية " وهذا القسم يحكم العقل بوجوبه دون توقف على الوحي (*) عندهم . أما ما عدا ذلك من صفات خبرية دل الكتاب والسنة عليها فإنهم يؤولونها .
ـ قسم مصدره العقل والنقل معاً كالرؤية ـ على خلاف بينهم فيها .
ـ قسم مصدره النقل وحده وهو السمعيات ذات المغيبات من أمور الآخرة كعذاب القبر والصراط والميزان وهو مما لا يحكم العقل باستحالته، فالحاصل أنهم في صفات الله جعلوا العقل حاكماً، وفي إثبات الآخرة جعلوا العقل عاطلاً، وفي الرؤية جعلوه مساوياً. أما في مذهب أهل السنة والجماعة فلا منافاة بين العقل والنقل أصلاً ولا تقديم للعقل في جانب وإهماله في جانب آخر وإنما يُبدأ بتقديم النقل على العقل .
• خالف الأشاعرة مذهب السلف في إثبات وجود الله تعالى، ووافقوا الفلاسفة والمتكلمين في الاستدلال على وجود الله تعالى بقولهم: إن الكون حادث ولا بد له من محدث قديم وأخص صفات القديم مخالفته للحوادث وعدم حلوله فيها . ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس بجوهر ولا جسمٍ ولا في جهة ولا في مكان . وقد رتبوا على ذلك من الأصول الفاسدة ما لا يدخل تحت حصر مثل: إنكارهم صفات الرضا والغضب والاستواء بشبهة نفي حلول الحوادث في القديم من أجل الرد على القائلين بقدم العالم، بينما طريقة السلف هي طريقة القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق سبحانه وتعالى .
• التوحيد عند الأشاعرة هو نفي التثنية والتعدد بالذات ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة أي نفي الكمية المتصلة والمنفصلة . وفي ذلك يقولون: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، واحد في صفاته لا شبيه له، واحد في أفعاله لا شريك له . ولذلك فسروا الإله (*) بأنه الخالق أو القادر على الاختراع، و أنكروا صفات الوجه واليدين والعين لأنها تدل على التركيب والأجزاء عندهم. وفي هذا مخالفة كبيرة لمفهوم التوحيد عند أهل السنة والجماعة (*) من سلف الأمة ومن تبعهم ـ، وبذلك جعل الأشاعرة التوحيد هو إثبات ربوبية الله عز وجل دون ألوهيته .
وهكذا خالف الأشاعرة أهل السنة والجماعة في معنى التوحيد حيث يعتقد أهل السنة والجماعة أن التوحيد هو أول واجب على العبيد إفراد الله بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته على نحو ما أثبته تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف (*) أو تعطيل (*) أو تكييف أو تمثيل .
ـ إن أول واجب عند الأشاعرة إذا بلغ الإنسان سن التكليف هو النظر أو القصد إلى النظر ثم الإيمان، ولا تكفي المعرفة الفطرية ثم اختلفوا فيمن آمن بغير ذلك بين تعصيته و تكفيره ..
بينما يعتقد أهل السنة والجماعة أن أول واجب على المكلفين هو عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، توحيد الألوهية بدليل الكتاب والسنة والإجماع (*)، وأن معرفة الله تعالى أمر فطري مركوز في النفوس .
ـ يعتقد الأشاعرة تأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين واليمين والقدم والأصابع وكذلك صفتي العلو والاستواء . وقد ذهب المتأخرون منهم إلى تفويض معانيها إلى الله تعالى على أن ذلك واجب يقتضيه التنزيه، ولم يقتصروا على تأويل آيات الصفات بل توسعوا في باب التأويل (*) حيث شمل أكثر نصوص الإيمان، خاصة فيما يتعلق بإثبات الزيادة والنقصان، وكذلك موضوع عصمة الأنبياء . أما مذهب السلف فإنهم يثبتون النصوص الشرعية دون تأويل معنى النص ـ بمعنى تحريفه ـ أو تفويضه (*)، سواءً كان في نصوص الصفات أو غيرها .
• الأشاعرة في الإيمان بين: المرجئة (*) التي تقول يكفي النطق بالشهادتين دون العمل لصحة الإيمان، وبين الجهمية (*) التي تقول يكفي التصديق القلبي . ورجح الشيخ حسن أيوب من المعاصرين أن المصدق بقلبه ناجٍ عند الله وإن لم ينطق بالشهادتين، (تبسيط العقائد الإسلامية 29ـ32) . و مال إليه البوطي و (كبرى اليقينيات 196) . وفي هذا مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ومخالفة لنصوص القرآن الكريم الكثيرة منها: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية:21]. عليه يكون إبليس من الناجين من النار لأنه من المصدقين بقلوبهم، وكذلك أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن هناك داع لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على قوله لا إله إلا الله محمد رسول الله وغير ذلك كثير .
• الأشاعرة مضطربون في قضية التكفير (*) فتارة يقولون لا نكفر أحداً، وتارة يقولون لا نكفر إلا من كفرنا، وتارة يقولون بأمور توجب التفسيق و التبديع أو بأمور لا توجب التفسيق والتبديع، فمثلاً يكفرون من يثبت علو الله الذاتي أو من يأخذ بظواهر النصوص حيث يقولون: إن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر .
أما أهل السنة والجماعة (*) فيرون أن التكفير حق لله تعالى لا يطلق إلا على من يستحقه شرعاً،ولا تردد في إطلاقه على من ثبت كفره بإثبات شروط وانتفاء موانع 0
• قولهم بأن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة ولكنه كلام الله النفسي وأن الكتب بما فيها القرآن مخلوقة . يقول صاحب الجوهرة: " يمتنع أن يقال إن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم " وذلك في محاولة لم يحالفها النجاح للتوفيق بين أهل السنة والجماعة (*) والمعتزلة .أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو: أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه جبريل و سمعه موسى ـ عليه السلام ـ ويسمعه الخلائق يوم القيامة . يقول تعالى: (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله).
• والإيمان والطاعة بتوفيق الله، والكفر (*) والمعصية بخذلانه ، والتوفيق عند الأشعري، خلق القدرة على الطاعة، والخذلان عنده: خلق القدرة على المعصية، وعند بعض أصحاب الأشعري، تيسير أسباب الخير هو التوفيق وضده الخذلان .
• كل موجود يصح أن يرى، والله موجود يصح أن يُرى، وقد ورد في القرآن أن المؤمنين يرونه في الآخرة، قال تعالى: (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة:22]. ولكن يرى الأشاعرة أنه لا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع فإن كل ذلك مستحيل ! وفي ذلك نفي لعلو الله تعالى والجهة بل ونفي للرؤية نفسها . ويقترب الرازي كثيراً من قول المعتزلة في تفسيره للرؤية بأنها مزيد من الانكشاف العلمي .
• حصر الأشاعرة دلائل النبوة (*) بالمعجزات (*) التي هي الخوارق، موافقة للمعتزلة وإن اختلفوا معهم في كيفية دلالتها على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بينما يرى جمهور أهل السنة أن دلائل ثبوت النبوة (*) للأنبياء كثيرة ومنها المعجزات .
• صاحب الكبيرة (*) إذا خرج من الدنيا بغير توبة حكمه إلى الله تعالى، إما أن يغفر له برحمته، وإما أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، موافقة لمذهب (*) أهل السنة والجماعة (*) .
• يعتقد الأشاعرة أن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاته، وأن الله تعالى أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته . ولقد عدَّ المحققون " الكسب " هذا من محالات الكلام وضربوا له المثل في الخفاء والغموض، فقالوا: " أخفى من كسب الأشعري "، وقد خرج إمام الحرمين وهو من تلاميذ الأشعري عن هذا الرأي، وقال بقول أهل السنة والجماعة بل والأشعري نفسه في كتاب الإبانة رجع عن هذا الرأي .
• قالوا بنفي الحكمة والتعليل في أفعال الله مطلقاً، ولكنهم قالوا إن الله يجعل لكل نبي معجزة لأجل إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم فتناقضوا في ذلك بين ما يسمونه نفي الحكمة والغرض وبين إثبات الله للرسول(*) المعجزة تفريقاً بينه وبين المتنبئ .
• وافق الأشاعرة أهل السنة والجماعة في الإيمان بأحوال البرزخ، وأمور الآخرة من: الحشر والنشر، والميزان، والصراط، والشفاعة والجنة والنار، لأنها من الأمور الممكنة التي أقر بها الصادق صلى الله عليه وسلم، وأيدتها نصوص الكتاب والسنة، وبذلك جعلوها من النصوص السمعية .
• كما وافقوهم في القول في الصحابة على ترتيب خلافتهم، وأن ما وقع بينهم كان خطأ وعن اجتهاد منهم، ولذا يجب الكف عن الطعن فيهم، لأن الطعن فيهم إما كفر، أو بدعة، أو فسق، كما يرون الخلافة في قريش، وتجوز الصلاة خلف كل برٍ وفاجر، ولا يجوز الخروج على أئمة الجور . بالإضافة إلى موافقة أهل السنة في أمور العبادات والمعاملات .
• فضلاً عن تصدي الأشعري للمعتزلة ومحاجتهم بنفس أسلوبهم الكلامي ليقطع شبهاتهم ويرد حجتهم عليهم، تصدى أيضاً للرد على الفلاسفة والقرامطة والباطنية (*)، والروافض (*) وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة .
• والأشعري في كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي هو آخر ما ألَّف من الكتب على أصح الأقوال ، رجع عن كثير من آرائه الكلامية إلى طريق السلف في الإثبات وعدم التأويل .. يقول رحمه الله:" وقولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا عليه السلام، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ورفع به ضلال الشاكِّين، فرحمة الله عليه من إمام مقدَّم وجليل معظَّم وكبير مفخَّم ".
• إن مدرسة الأشعرية الفكرية لا تزال مهيمنة على الحياة الدينية في العالم الإسلامي، ولكنها كما يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: " فقدت حيويتها ونشاطها الفكري، وضعف إنتاجها في الزمن الأخير ضعفاً شديداً وبدت فيها آثار الهرم والإعياء ". لماذا ؟
ـ لأن التقليد طغى على تلاميذ هذه المدرسة وأصبح علم الكلام (*) لديهم علماً متناقلاً بدون تجديد في الأسلوب .
ـ لإدخال مصطلحات الفلسفة (*) وأسلوبها في الاستدلال في علم الكلام .. فكان لهذا أثر سيئ في الفكر الإسلامي، لأن هذا الأسلوب لا يفيد العلم القطعي .. ولهذا لم يتمثل الأشاعرة بعد ذلك مذهب أهل السنة والجماعة (*) ومسلك السلف، تمثُّلاً صحيحاً، لتأثرهم بالفلاسفة وإن هم أنكروا ذلك .. حتى الغزالي نفسه الذي حارب الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة يقول عنه تلميذه القاضي ابن العربي: " شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر".
ـ تصدي شيخ الإسلام ابن تيمية لجميع المذاهب الإسلامية التي انحرفت عن الكتاب والسنة ـ ومنهم الأشاعرة وبخاصة المتأخرة منهم ـ في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل وفنَّد آراءهم الكلامية، وبيَّن أخطاءهم وأكَّد أن أسلوب القرآن والسنة هو الأسلوب اليقيني للوصول إلى حقيقة التوحيد والصفات وغير ذلك من أمور العقيدة .
الجذور الفكرية والعقائدية:
• كما رأينا في آراء أبي الحسن الأشعري في مرحلته الثانية أن العقيدة الإسلامية، كما هي في الكتاب والسنة وعلى منهج(*) ابن كلاب هي الأساس في آرائه الكلامية وفي ما يتفق مع أحكام العقل(*) .
• تأثر أئمة المذهب بعد أبي الحسن الأشعري ببعض أفكار ومعتقدات: الجهمية(*) من الإرجاء(*) والتعطيل(*)، وكذلك بالمعتزلة والفلاسفة في نفي بعض الصفات وتحريف(*) نصوصها، ونفي العلو والصفات الخبرية كما تأثرو بالجبرية في مسألة القدر(*).
• لا ينفي ذلك تأثرهم بعقيدة أهل السنة والجماعة (*) فيما وافقوهم فيها .
الانتشار ومواقع النفوذ:
انتشر المذهب (*) الأشعري في عهد وزارة نظام الملك الذي كان أشعريِّ العقيدة، وصاحب الكلمة النافذة في الإمبراطورية السلجوقية، ولذلك أصبحت العقيدة الأشعرية عقيدة شبه رسمية تتمتع بحماية الدولة .
وزاد في انتشارها وقوتها مدرسة بغداد النظامية، ومدرسة نيسابور النظامية، وكان يقوم عليهما رواد المذهب الأشعري، وكانت المدرسة النظامية في بغداد أكبر جامعة إسلامية في العالم الإسلامي وقتها، كما تبنى المذهب وعمل على نشره المهدي بن تومرت مهدي الموحدين، ونور الدين محمود زنكي، والسلطان صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اعتماد جمهرة من العلماء عليه، وبخاصة فقهاء الشافعية والمالكية المتأخرين . ولذلك انتشر المذهب في العالم الإسلامي كله، لا زال المذهب الأشعري سائداً في أكثر البلاد الإسلامية وله جامعاته ومعاهده المتعددة .
يتضح مما سبق:
أن الأشاعرة فرقة كلامية إسلامية تنسب إلى أبي الحسن الأشعري في مرحلته الثانية التي خرج فيها على المعتزلة ودعا فيها إلى التمسك بالكتاب والسنة، على طريقة ابن كلاب، وهي تثبت بالعقل (*) الصفات العقلية السبع فقط لله تعالى، (الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام) واختلفوا في صفة البقاء، أما الصفات الاختيارية والمتعلقة بالمشيئة من الرضا والغضب والفرح والمجيء والنزول فقد نفوها، بينما يؤلون الصفات الخبرية لله تعالى أو يفوضون معناها . ويؤمن متأخرو الأشاعرة ببعض الأفكار المنحرفة عن عقيدة أهل السنة والجماعة (*) التي تصدى لها ولغيرها شيخ الإسلام ابن تيمية، لا سيما في مجال العقيدة، حيث أكد أن أسلوب القرآن والسنة بفهم السلف الصالح هو الأسلوب اليقيني للوصول إلى حقيقة التوحيد والصفات وغير ذلك من أمور العقيدة والدين . وعموماً فإن عقيدة الأشاعرة تنسب إلى عقيدة أهل السنة والجماعة بالمعنى العام في مقابل الشيعة (*) ، وأن الأشاعرة وبخاصة أشاعرة العراق الأوائل أمثال أبو الحسن الأشعري، والباهلي، وابن مجاهد، والباقلاني وغيرهم، أقرب إلى السنة والحق من الفلاسفة والمعتزلة بل ومن أشاعرة خراسان كأبي بكر بن فورك وغيره، وإنهم ليحمدوا على مواقفهم في الدفاع عن السنة والحق في وجه الباطنية (*) والرافضة (*) والفلاسفة، فكان لهم جهدهم المحمود في هتك أستار الباطنية وكشف أسرارهم، بل وكان لهم جهادهم المشكور في كسر سورة المعتزلة والجهمية (*).
تابع كل ما يخص مسابقة الأساتذة 2021 من هنا :